قل لى أنت بالله عليك، كيف يمكن أن يكون الوزير آمنا فى حياته، مستقرا فى عمله، عفيفا عن إغراءات الدنيا من حوله، منزها عن الفساد والرشوة والتلاعب والتربح والتربيح، إذا كان راتبه لا يكفيه لأكثر من نصف الشهر، بل لا يكفيه لشراء ملابس مناسبة يظهر بها أمام العالم، ويمثل مصر بمظهر لائق فى المؤتمرات الدولية أو فى الاجتماعات مع زوّار مصر من الخارج؟
كنت ومازلت أتحفظ على الحد الأقصى للأجور فى وظائف معينة داخل الدولة، هناك وظائف يستحيل أن تستقطب إليها كوادر فنية كبرى دون تأمينها بأجور مناسبة، ومخصصات عادلة، وتعويضات لائقة، وكنت قد كتبت مبديا هذا الرأى مع اليوم الأول لتطبيق الحد الأقصى للأجور، وكنت قد أشرت إلى أن بعض الكوادر المصرية التى تبرع فى الخارج لا يمكن أن تقبل بأن تعود لخدمة بلادها فى مناصب تنفيذية عليا، فى حين أننا نعرض عليهم الفقر الكامل، والضياع لهم ولأسرهم، فى الوقت الذى يتعرض فيه المسؤول لحروب مفتوحة من كل حدب وصوب، ورهان بسمعته الشخصية وبحياته العائلية مع أول يوم لقبول الوظيفة العامة.
ما نشهده هذه الأيام من تعبئة وتجييش ضد زيادة رواتب الوزراء والمسؤولين لا يختلف فى تقديرى عن حالة القطيع التى شهدتها مصر فى أعقاب أحداث يناير، نفس المشهد، ونفس المبررات الواهنة الهزيلة، ونفس الآلية من استخدام الكلام الحق الذى يراد به الباطل، نحن نطالب الوزير بأن يكون مخلصا، وفاعلا، ومتفانيا، وقادرا على الابتكار، وفائق الشياكة، ومتعدد المواهب، وضليعا فى اللغات الأجنبية، ثم نقول له إننا سنعطيك راتبا لا تستطيع به أن تدعو زملاءك فى المكتب على سندوتشات فول وطعمية.
أفهم أن بعض الوزراء فدائيون، وأفهم أيضا أن بعضهم ميسورون من قبل قبول المنصب الوزارى، لكن هذه استثناءات لا يمكن تعميمها، وما يقبله جماعة من الناس، قد يستحيل قبوله لدى جماعة أخرى، ومصر تحتاج إلى الكوادر، وتحتاج إلى العفة، وتحتاج إلى النزاهة، وتحتاج إلى الفداء، لكن مصر رغم غلاوتها قد لا تكون أعز على الوزير من مستقبل أولاده وأمان عائلته.
يجب أن نعيد التفكير فى رواتب الإدارات العليا فى البلد، وننظر بروح مختلفة لهؤلاء الذين يتولون مناصب يتحتم عليهم فيها أن يهجروا عملهم الخاص، وأن يقدموا صورة مشرقة عن مصر، وإلا فسنجد أنفسنا فى النهاية غارقين فى الفساد، لا قدر الله، أو محرومين من استقطاب الكوادر المؤهلة لتولى المناصب الرسمية، وخوض تجربة العمل العام.
لا نطلب لهم مال قارون، لكننا نطلب أن نضمن لهم عزة النفس بحياة كريمة، لا ينظرون فيها لما بين أيدى الناس، ولا يتحسرون فيها على سنوات العمل الخاص.
والله أعلى وأعلم
مصر من وراء القصد
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة