كل الاحترام لكتب التفسير السلفية للقرآن الكريم، فهذا السلف بذل جهدًا خارقًا فى التفسير والتحليل واستنباط الأحكام، وبيان أسباب النزول ورصد الروايات النبوية حول بعض الآيات، وجمع تفسيرات الصحابة لكثير من الأحكام القرآنية فى أزمنة لم تعرف أجهزة الكمبيوتر الحديثة، ولا الاتصالات الهاتفية التى توفر سفر مئات الأميال للتواصل مع حفظة القرآن، أو حفظة الأحاديث النبوية، أو الاطلاع على نسخ كتاب الله المجموعة منذ عصر عثمان بن عفان، رضى الله عنه.
لكن تبقى هذه التفاسير لكتاب الله تعالى مرتبطة بالأزمنة التى حررت فيها، ومرتبطة كذلك بدلالات اللغة فى البلد الذى ينتمى إليه المفسر، ولعلك تعرف يقينًا أن أغلب المفسرين المشهورين عبر التاريخ لم يعاصروا النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، ولم يعاصروا الصحابة الكرام، وبعضهم لم يعاصر التابعين أو تابعى التابعين، ومع ذلك تحتل تفسيراتهم لكتاب الله مكانة مرموقة تصل بذاتها إلى حد القدسية فى قراءة آيات الله وبيان معانيها، ومن ثم فإن بعض الأحكام الناتجة عن هذه التفاسير تباينت بين البلدان، وتباينت عبر الأزمنة، فيما ورثنا نحن تراثًا هائلًا من التفاسير دون أن يعقبه جهد علمى معاصر يقدم تفسيرًا مرتبطًا بالزمن الحالى، وبالظروف الحالية، وبما أنتجته بعض التفسيرات المختلفة لكتاب الله على حياة المسلمين، وعلى الفقه السياسى فى العصور الإسلامية وحتى اليوم.
حتى التفسيرات التى حاول بعض متخصصى علوم القرآن المحدثين أو المعاصرين الاجتهاد فى تحريرها، اعتمدت فى أغلبها على الجمع والتحليل والتعليق على مفسرين قدماء، فيما لجأ مفسرون آخرون إلى جمع التأويلات المختلفة للآيات فى كتاب واحد، بل وجمع روايات متناقضة لأسباب النزول، أو للناسخ والمنسوخ من القرآن الكريم بين دفتى عمل علمى واحد، ما أدى، فى تقدير الكثير من دارسى العلوم الإسلامية، إلى ارتباك القارئ البسيط، كما أدى إلى فتح باب الفرص الواسعة لتطويع الأحكام بحسب الهوى، ومنح كل من يريد تفصيل حكم على مقاسه الخاص من الجماعات السياسية المتطرفة إلى أن يجد مغنمًا فى كتب التفسير، وأن يجد ذرائع وروايات يستند إليها حسب غايته السياسية أو الطائفية.
المدهش أن الاجتهاد الأشهر الوحيد الحديث فى التفسير كان لأحد قيادات جماعة الإخوان فى الخمسينيات «سيد قطب»، الذى حرر منفردًا وبقراءته الشخصية تفسيرًا للقرآن الكريم، فى موسوعة شهيرة باسم «فى ظلال القرآن»، وحاول قطب أن يقدم الظلال ليس باعتباره تفسيرًا، ولكن باعتباره قراءة فى ظلال التفسيرات المختلفة، وتحول الظلال إلى تفسير معتمد لدى الإخوان، وإلى مرجع سهل وبلغة عصرية للأحكام حسبما انتقاها سيد قطب، وحسبما وظفها لصالح جماعته السياسية، ثم أصبح الظلال لاحقًا مرجعًا لكل الجماعات الإسلامية المتشددة، إذ يختصر قطب الروايات التى تخدم هدفه السياسى، ويختار فى سهولة من بين روايات أسباب التنزيل المختلفة ما يتلائم مع مبتغاه، ويوجز روايات مفسرى السلف التى تدعم منطقه فى قراءة كتاب الله تعالى.
القوى الإسلامية المعتدلة فى العالم العربى والإسلامى لا تملك تفسيرًا معاصرًا يدعم أسس الاعتدال فى الإسلام، وليس لدينا من بين محاولات التفسير المتعددة كتاب يمكن أن يشكل مرجعًا فى التفسير بلغة عصرية وبقراءة معتدلة فى روايات المفسرين السابقين، ليس لدينا ما يواجه فى ظلال القرآن، أو غيره من كتب الأحكام التى يعتمد عليها المتطرفون فى تأصيل منطقهم الفكرى المتطرف والدموى، ومن ثم يستخدم المتطرفون القرآن الكريم، ويستندون إلى مراجع سلفية أكثر من قدرة المعتدلين الذين يواجهونهم الحجة بالحجة، ولذلك أتصور أننا فى حاجة إلى عمل علمى متكامل فى تفسير القرآن الكريم بلغة عصرية بسيطة، وبقدرة على حسم الارتباكات والتناقضات فى كتب التفسير السلفية، وبغاية أساسها تصحيح الخطاب الدينى استنادًا إلى رسالة الله إلى العالم.
أنت تعرف طبعًا أن المعنى الذى أريده فى التفسير لا يمكن أن ينطبق مثلًا على خواطر الشيخ الشعراوى، إن كان بعض الطيبين من الناس يتصورون أن هذا هو المبتغى، ففضيلة الإمام الشعراوى كانت غايته الدائمة ضمن رقائق الإسلام، واستهدف الترشيد الأخلاقى والقراءة الروحية للأحكام لتهذيب القلوب، لكن لا يمكن أن نعتمد على هذه الخواطر ضمن ما ندعو إليه من مشروع التفسير المعاصر للقرآن الكريم.
نحتاج إلى حسم للمتشابه، ودقة فى تحديد أسباب النزول، وبراعة فى معالجة الناسخ والمنسوخ، وقدرة على استنباط الأحكام فى التفسير، ولغة معاصرة يفهمها جمهور المسلمين فى هذا الزمن، وفهم علمى لدلالات ومعانى اللغة فى زمن القرآن، ثم فى زمن مفسرى القرآن الكريم.
والله أعلى وأعلم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة