أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين

سفّاح كامل.. ورئيس إلا «رُبع»

الخميس، 27 يونيو 2019 10:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وقف على منصَّة فى حىّ «سلطان غازى»، معقل الطبقة العاملة، داعمًا رئيس وزرائه وبرلمانه السابق، ومندوبه فى انتخابات إسطنبول، بن على يلدريم، ومُهاجمًا مُرشَّح حزب الشعب الجمهورى، أكرم أوغلو، قبل يومٍ من تصويت الأحد الماضى، زاعمًا أن المُنافس يرتبط بحركة «خدمة» ورجل الدين المُعارض فتح الله جولن. ورغم خطاب «أردوغان» الشعبوى الفجّ، وسعيه لتوظيف وضعيّته الرسميّة وما يتوهَّمه من شعبيّة، فاز «أوغلو» بفارقٍ شاسع عن قِطِّه الأليف!
 
ما شهدته الانتخابات يُمثِّل تحوّلاً واسع المدى فى السياسة التركية، ليس لأن الحزب الحاكم خسر المُدن الثلاث الكبرى، إسطنبول وأنقرة وإزمير، ولكن لأنّ ما انطوت عليه العملية الأخيرة، سلَّط ضوءًا كاشفًا على وجه الديكتاتور، وفضح حجم الذُّعر الذى يقبض على روحه. فلأوَّل مرّة مُنذ صعوده للحكومة ربيع 2003، فرئاسة الدولة صيف 2014، يتدخَّل «أردوغان» فى انتخابات البلديَّات بشكلٍ مُباشر، وينزل ساحة الصراع التى كان يترفَّع عنها، ما يُؤكِّد أن دائرة السلطة تشهد انحسارًا حادًّا، وأنه يستشعر غياب اللاعبين، وانكشاف الدفاع، وعجز فريقه عن تسجيل الأهداف.
 
بدأ «أردوغان» صعودَه من إسطنبول، التى ترأسها بين مارس 1994 ونوفمبر 1998، وعُزِل منها فى اتِّهامه بإشاعة الكراهية، ومُنذ تلك اللحظة لم تخرج عن سيطرته، عبر رجاله ووجوه حزب «العدالة والتنمية» بعد تأسيسه 2001، لكنّ تمسُّكه بها الآن ليس حنينًا إلى ملعبه الأول، وإنَّما يرتبط بحجم المدينة وتأثيرها اقتصاديًّا وسياسيًّا. وهو ما لخَّصه الكاتب التركى مُراد يتكين: «أردوغان قَلقٌ للغاية. يلعب بكلِّ ورقةٍ، وإذا خسر سيكون ذلك نهاية نهوضه طوال 25 سنة. كثيرون سيعتبرونها بداية النهاية».
 
ما قاله «يتكين» ليس تضخيمًا لحجم المعركة، بل سبق أن ردّده «أردوغان» نفسه فى مناسباتٍ عدَّة، ويُمكن حصر أكثر من عشرة تصريحات مُسجَّلة يقول فيها: «مَن يخسر إسطنبول يخسر تركيا». وبينما قد يعتبر البعض الجُملة تعبيرًا مجازيًّا يرفع قدر المدينة، فإن حقيقة الأمر أنه واقعىّ للغاية، وأن خسارتها تُضارع فقدان «رُبع تركيا»، إن لم يكن أكثر، وبالتأكيد قد تكون مُقدِّمةً لخسارة الأرباع الثلاثة الباقية!
 
إسطنبول تقارب ألفى كيلومتر مربع، تتَّسع إلى 6200 بالضواحى والقرى، وتستحوذ على أكثر من مليون طالب فى 20 جامعة، من إجمالى 3.2 مليون يتوزعون على 140 جامعة، وبها 6 موانئ تجارية وسياحيّة تُنافس إزمير ومرمريس وأنطاليا، و3 مطارات كبيرة «أتاتورك/ إسطنبول/ صبيحة كوكجن» منها اثنان يُعادلان 25 % من مطارات تركيا الدولية. ويقطنها 15 مليونًا بينهم 12 مليون ناخب يُمثّلون 20 % من الناخبين، ونُموّ سُكَّانها 3.5 % سنويًّا، ما يعنى أنها تزيد أكثر من مليون كُلَّ سنتين، ومُقارنةً بالنموّ العام فمن المُتوقَّع أن تقفز إلى 25 % من الناخبين بحلول 2029، و30 % تقريبًا فى 2039. وحتى قبل تلك الزيادة فإن تقارُبها مع المُعارضة يُرجِّح كفّة الأخيرة فى سباق البرلمان، ورُبّما فى الرئاسة المُقبلة.
 
يدير عُمدة إسطنبول ميزانية ضخمة، كانت 7.8 مليار دولار فى 2018، وقفزت إلى 10 مليارات خلال العام الجارى، تتجاوز بها كل وزارات الحكومة، باستثناء «الدفاع» التى زادت من 7.9 مليار فى 2017 إلى 11.5 مليار 2018، لتمويل تحرُّكات الجيش فى سوريا وتكلفة صواريخ «S 400» الروسيّة. ووصفت «واشنطن بوست» المدينة بأنّها نواة الدعم الصُّلبة للنظام، بينما قالت «فاينانشيال تايمز» إن خسارتها أكثر إيلامًا من أنقرة، خاصة أن «أردوغان» يراها قوَّته الضاربة وأساس استقرار سلطته.
 
حصَّة المدينة من الاقتصاد 970 مليار ليرة «181 مليار دولار» بنسبة 31.2 % من الناتج الإجمالى، بحسب بيانات معهد الإحصاء الحكومى TSI، تُمثّل 1.2 % تقريبًا من مُوازنة 2019. وتُسهم بـ38 % من الإنتاج الصناعى، و45 % من مُنتجات الجُملة، و40 % من الضرائب، وصدَّرت العام الماضى بـ90 مليار دولار واستوردت بـ70، بنسبتى 56.6 % و60.2 % من إجمالى الصادرات والواردات على التوالى. وإذا أضفنا إليها أرقام أنقرة وإزمير، اللتين خسرهما «أردوغان» أيضًا، يتصاعد الإسهام إلى 53.2 % من الصناعة، و1.5 تريليون ليرة «281 مليار دولار» تُعادل 46.4 % من الناتج الإجمالى و158 % من المُوازنة، ما يعنى أن الديكتاتور خسر نصف تركيا تقريبًا على المستوى القاعدى، وتتبقَّى ترجمة ذلك فى دوائر السُّلطة العُليا.
 
إذا كان أتراكُ الأناضول شعبًا من الرُحَّل الذين لا أصل لهم، فإنّ التّيه يتجلَّى بوُضوح فى «إسطنبول/ القسطنطينيّة»، التى كانت مُستقرًّا مَوسميًّا للقبائل التراقيّة البدويَّة، ثم استوطنها مُستعمرون إغريق قبل الميلاد، لتتحوَّل إلى «أنطونينا» نسبةً لـ«أنطونيس/ كاراكلا» نجل الإمبراطور «سيفيروس»، قبل أن تُصبح عاصمةً شرقيّة للرومان، وتأخذ اسمها من قسطنطين الأول. ومُنذ انطلاق جُرثومة الدولة العثمانية 1453 ميلاديًّا، أصبحت قاعدةً لتوزيع همجيّة التُّرك وبداوتهم على العالم، وخنجرًا فى خاصرة الإقليم، وساحةً قذرةً لكل الجرائم، بدءًا من إبادة الأَرمن حتى بَيع فلسطين للصهاينة. لهذا بادر محمّد علِى، بعدما وطَّد حُكمه فى مصر، إلى غزو الأناضول وحصار بُؤرة «إسطنبول» السوداء، قبل أن تتدخَّل الدول الكبرى وقتها لإنقاذ كلابِها الأليفة على عرش السلطنة.
 
يحتفظ «أردوغان» بجرثومة العُثمانيّين فى رُوحه ووعيه، ولا يتوقَّف عن الفخر بجرائمهم، بل يعتبر نفسَه امتدادًا لتلك الحقبة الدمويّة، يُؤمن مثلهم بالتوسُّع المُطَّرد، وبأنَّ انحسار الموج مُقدِّمةٌ لانكشاف رَمل الشاطئ، لذا يُدرك جيّدًا أن ظهره سينكشف بخسارة إسطنبول، ففضلاً عن المكاسب الضائعة قد يفقدُ بعض ولاء الحاشية المُتربِّحين من مَزايا المدينة، كما أنَّ سُلطات رئيسها الجديد ستحرمه من توجيه رُبع اقتصاد تركيا وخُمس ناخبيها، إضافة إلى 15 % فى أنقرة وإزمير. وتلك أخطر كوابيس وَريث سفّاحى «آل عثمان»، الذى لم يفشل فى أن يكون عُثمانيًّا كاملاً، لكنّه أصبح رئيسًا إلا «رُبع»، ويُرعبه أن يذوب ببُطءٍ أو تتآكل الأرض تحت قدميه، بينما يُصرُّ على تجميد تركيا، ثمّ يجلس على عَرشه الجليدىّ قابضًا النار بكفَّيه!









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة