بينما عانى اليهود فى مُعسكرات النازيِّين خلال ثلاثينيّات القرن الماضى، كانت تتردَّد بين وقتٍ وآخر هتافاتٌ مُنادية بانتصار «هتلر» وسقوط المجتمع اليهودى. بدا الأمر غريبًا وغير مفهومٍ آنذاك، وظلَّ هكذا حتى فسَّرته الوقائع والأبحاث العلمية بعد قرابة 40 سنة.
عُرفت الحالة لاحقًا بـ«مُتلازمة ستوكهولم»، نسبة إلى ضحايا سرقة بنك «كريديت بانكين» أغسطس 1973، الذين احتُجزوا ستَّة أيام عقب السطو، ومع نجاح الأمن فى تحريرهم وضبط الُجناة، حاولوا تبرئة اللصوص، وهو ما فسَّره نيلز بيجيروت، مستشار الشرطة السويدية المُتخصِّص فى علم النفس، بأنه اختلال يدفع الضحية للتعاطف مع المُعتدِى وإظهار الولاء له، وزاد علم النفس التطوُّرى بأنها محاولة للتعايش، تشبه أنماط الاستجابة فى علاقات الجنس السادية، والقهر الزوجى، والتراتب السلطوى داخل العصابات والمجموعات الإجرامية، إلى غير ذلك من الأمثلة الشبيهة.
سُجِّلت وقائع أكثر صدمة للحالة، مثل جيسى دوجارد التى اختُطفت 18 سنة واغتُصبت وأنجبت ولدين، وناتاشا كامبوش المُختطَفة ثمانى سنوات، وشون هورنبيك المُختطَف 4 سنوات، وكولين ستان التى حُبست فى تابوت 23 ساعة يوميًّا طوال 7 سنوات واستُعبدت جنسيًّا، وإليزابيث فريتزل التى حبسها والدها 24 سنة فى قبوٍ وأنجب منها 7 أطفال، وجميعهم لم يحاولوا الهرب، وأبدوا تعاطفًا واضحًا مع خاطفيهم عندما انكشف الأمر، وبعضهم وصف الجناة بـ«الشخصيات العظيمة».. ويُمكن ملاحظة الحالة نفسها، أو تنويعة عليها، لدى بعض الواقعين فى قبضة الإخوان!
تنطبق تفاصيل تلك الحزمة من الاختلالات على أيمن نور وسليم عزوز ومحمد ناصر وأحمد حسن الشرقاوى ومحمد طلبة رضوان، وغيرهم ممّن يدَّعون الانتماء لليبرالية أو اليسار أو القومية، وينامون فى أحضان الإخوان ونظام أردوغان فى تركيا، لكن أكثرهم تجسيدًا للحالة بما تنطوى عليه من خللٍ نفسى، تُرافقه أمراض وهواجس أخرى، مريض الذُهان والعُصاب بامتياز، معتز مطر!
بدأ «مطر» حياته فى الصحافة، ثم نجح بالمحسوبية والرشاوى فى دخول إذاعة الشباب والرياضة، ومنها نسج علاقات ومصالح مع رجل أعمال، انتقل بموجبها لتقديم برنامج باسم «محطة مصر» فى قناة أطلقها خلال 2007، وأُغلقت وأُعيد إطلاقها أكثر من مرّة، وخلال عمله مع الرجل المنتمى للحزب الوطنى، فتح قناة اتصال مع جماعة الإخوان الإرهابية عقب ثورة 25 يناير، واقترح عليهم إطلاق قناة تليفزيونية، وتولّى أدورًا استشارية وتنفيذية فى مرحلة التحضير، لينتقل ببرنامجه كما هو من شاشة نظام مبارك إلى شاشة الجماعة الإرهابية!
كان واضحًا وقتها أن معتز مطر أجيرٌ لا يعنيه الإعلام، ولا يتجاوز انتماؤه الليبرالى حيِّز الادّعاء والتجارة، ولأنه فشل فى نسج مزيدٍ من الخيوط مع مُشترين جُدد، على خلفية الوصمة التى التصقت به جرّاء العمل مع الإخوان، لم ينجح فى القفز من مركب الجماعة عقب سقوطها المُدوِّى فى ثورة 30 يونيو 2013، فاضطُرَّ بمنطق المصلحة إلى الارتحال معها لتركيا، إلى أن يحصل على مُشترٍ أو سيِّد جديد!
فى الشهور الأولى وُعِد «مطر» بوظيفة فى قناة ستُطلقها الجماعة، لكنه حاول الاتصال فى الوقت نفسه بعدد من رجال الأعمال ووجوه الإعلام داخل مصر، عارضًا العودة للعمل على الشاشات المحلية، وفضح الجماعة ومُمارساتها وما يعرفه عنها من فترة الإقامة فى حظيرتها، لكنّ عُروضه لم تجد قبولاً ممّن تواصل معهم، رُبّما لأنهم تجنَّبوا شُبهة ارتباطه بالإخوان، أو لأنهم رأوه بضاعة رخيصةً لا يُمكن إعادة تدويرها!
اضطُرّ معتز مطر للبقاء وقبول عرض الإخوان، لكنّ قادة الجماعة فى اسطنبول وصلتهم معلومات عن اتصالاته وعروضه للعودة إلى القاهرة، فواجهوه وأخذوا قرارًا باستبعاده من دوائرهم، وبعد أسفٍ وندم وتذلُّل وانبطاح تراجعوا عن قرارهم، وسمحوا له بالظهور من خلال قناة الشرق، التى نقلوا ملكيَّتها لاحقًا إلى أيمن نور، بعدما استدعوه من بيروت، وجعلوها مخزنًا لطائفة الخدم المُلتحقين بهم من اليسار والليبراليين، ليكونوا قيد الرقابة والمُتابعة، ويتجنَّبوا اختلاطهم بمجموعات الإخوان وأقطاب التنظيم النشطين فى القنوات الأخرى!
سقطت شعارات «مطر» التى باعها للإخوان عن التوافق والانحياز للجماعة، وباتت الصيغة القائمة أقرب إلى الإيجار أو البيع، ومن تلك العلاقة التعاقدية المُذلَّة شعر أنه خارج دائرة الأمان، ففضلاً عن المتابعة والفرز سيظلّ محلَّ شكٍّ دائم، ويحتاج لإثبات الولاء؛ حتى لا يفقد غطاء الجماعة، بما يُوفِّره من إقامة قانونية، وراتبٍ مُجزٍ، ومزايا معيشية، رُبّما تكون أقلّ من تطلُّعاته وأطماعه، لكنّه لا يضمن تعويضها حال طردته الجماعة من الخدمة!
هذا الشعور دفع معتز مطر إلى الانسلاخ من شخصيته تمامًا، على طريقة الضبع الذى يحاول الالتحاق بقطيع خراف، فتهاوت شعارات الليبرالية والتنوير والعقل والمنطق، ليحلَّ محلَّها التزامٌ بآليات العمل داخل الجماعة، من السمع والطاعة والخنوع والتبعية، ولاحقًا تطوَّر الأمر إلى صيغة من المُبالغة فى إثبات الولاء والانتماء، انعكست على مسلكه الإعلامى المُفتعل، عبر حركة جسدٍ بهلوانية، ودرجة صوت انفعالية صارخة، وكأنه يصرف الانتباه عن وصمة فى جبينه، أو يُغطِّى على ضوضاء العقل والضمير. فى الأخير انجرف إلى أداء يغلب عليه التمثيل، وكأنه لا يُصدِّق ما يقول، لكنّه يُمارس هذا الخطاب الاستعارى ليتعايش، على طريقة مرضى ستوكهولم، أو الواقعين تحت رحى علاقة جنسية سادية!
حالة «مطر» أصبحت مزيجًا من الانسحاق أمام العدو، مع شعور خفىٍّ بالدُّونيّة وانعدام القيمة، وبأنّه أداةٌ مدفوعة الأجر، وليس حتى شريكًا فى الجريمة على ما بها من انحطاط، وحتى يُعوِّض الآثار الضاغطة على وعيه وفُرص استمرائه لتلك الصيغة الرخيصة من التعايش، يتورَّط فى حالة إنكار، وَقودها إسقاط ما يستشعره فى ذاته على الآخرين، والتمادى فى ارتداء قناع الجماعة، والمُبالغة فى استعارة خطابها، بشكل يُزايد على أداء الإخوان أنفسهم، مع تعزيز الخلطة بأداءٍ تمثيلىٍّ كاريكاتورى، لإثارة غُبارٍ يحجب الرؤية، ويصرف الأنظار عن الفرز والتدقيق وفضح التناقضات. مجموع تلك الحالة يُشكِّل ضفيرةً من الأمراض والهلاوس، تجمع الانتهازية مع الانتحال والتدنِّى والتناقض والتصنُّع والإنكار والإسقاط وسُيولة القيم وابتذال الذات، وفضلاً عن قطيعتها مع حيّز الإعلام والتحاقها بساحة المَسرَحَة والكوميديا، فإنها تختزل مُتلازمةً مرضيَّةً، باتت تُعبِّر عن محنة الإخوان واحتراق أوراقهم، أكثر من تعبيرها عن نجاحهم فى شراء البضائع الرخيصة وإعادة تدوير نفايات التيارات الأخرى!