بلغ أحمد عرابى القاهرة ظهر الأربعاء 13 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1882، وكان أعضاء المجلس العرفى مجتمعين منذ ساعات طويلة فى «ديوان الجهادية» بقصر النيل ينتظرون أنباء معركة «التل الكبير» بين الجيش المصرى والإنجليز التى انتهت باحتلال مصر، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «الزعيم الثائر أحمد عرابى»، مضيفا: «بقى يعقوب باشا سامى ملازما مكتب التلغراف دون أن يكاشف أحدا بما يتلقاه من الأخبار، إلى أن أبلغ الحاضرين بأن ناظر الجهادية «عرابى» قادم على عجل، فأيقنوا أنها الهزيمة لا محالة».
يؤكد الرافعى: «جاء عرابى بصحبة على الروبى، وكان وجهه مكفهرا، وعلائم الاضطراب بادية عليه، فجلس على مقعده وظل صامتا لا يتكلم لمدة عشرين دقيقة، ثم عقد مجلسا حافلا فى قصر النيل من أعضاء المجلس العرفى وبعض الأمراء والكبراء.. شرح عرابى للمجلس أسباب هزيمة «التل الكبير»، وأرجع الهزيمة إلى عدم استماع الجنود لأوامره، وأتم على الروبى الكلام بقوله إن الجنود كانوا يرشقون عرابى بالطوب إذا نهض بالخطابة فيهم».
يذكر «عرابى» فى مذكراته، أنه استشار المجلس فيما يجب أن يعمل، وسأل: «هل يجب الاستمرار فى المدافعة، أم يلزم التسليم لقضاء الله وقدره؟»، وحسب «الرافعى» فى كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى»: «طلب عرابى التعجل فى إنشاء الحصون والاستحكامات والخطوط أمام العباسية، وأن يجمعوا الشاردين من العساكر وسواهم، ويقفون فى وجه الإنجليز، وخطب عبد الله النديم فى ذلك، وخالفهم على الروبى فقال بالتسليم، وقال عرابى: إنى مازلت على عزم الدفاع ورد العدوعن البلاد، وقال ذلك وهو ينسحب فرد عليه أحد كبار الضباط: كفاك ماجرى حتى الآن فقد دمرت الإسكندرية بسوء تدبيرك وجهلك للعواقب، فهل تريد أن تدمر القاهرة أيضا، نحن لا نسلم بضياعها، فكفى ماجرى من الخراب، وتصدى الأمير إبراهيم للموقف، وقال: مصر غاصة بالجند والمخازن ملأى بالمؤن والذخائر والأسلحة، ومعدات الدفاع متوافرة فالواجب علينا الدفاع ما دام فينا بقية، فأجاب الجميع بالاستحسان».
تنفيذا لهذا الرأى ذهب عرابى إلى العباسية بصحبة محمد مرعشلى باشا «باشمهندس الاستحكامات»، ومحمد رضا باشا قائد لواء الفرسان، واللواء حسن باشا مظهر، لاختيار الموقع الملائم لخط الدفاع، وطلب من «مرعشلى باشا» وضع تصميم لإنشاء خط دفاعى أمام المطرية، واستعرض عرابى العساكر فلم يجد، وفقا لمذكراته، إلا ألف رجل من خفراء البلاد بغير ضباط، ونحو أربعين نفر سوارى فى مركز عساكر الخيالة مع أحمد بك نير الذى قال إنه يقف فى وجه العدو ويقاتله برجاله الأربعين حتى يموت معهم.. يؤكد عرابى: «لما شاهدنا ذلك علمنا أن الأولى حقن الدماء وحفظ القاهرة من غوائل الحرب والدمار».
رجع عرابى ومن معه، وتوجه إلى «قصرالنيل» وأخبر الحاضرين بما شاهده، فاستقر الرأى على التسليم، وكتابة عريضة إلى الخديو يلتمسون فيها العفو عنهم ويقدمون له الخضوع ويعتذرون عن أفعالهم الماضية، وفقا لما يذكره «الرافعى» فى كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى»، مؤكدا: «أخذ عبدالله النديم بكتابة العريضة وملأها بالطعن والسباب فى الإنكليز، وشرح ماوقع، ولما تلاها على الهيئة لم ترقهم ولم تعجبهم، فوقف بطرس غالى باشا وكيل الحقانية، وأملى عريضة الاستعطاف فأقروها وكلفوا رؤوف باشا، وبطرس بإيصالها إلى الخديو، وطلب على الروبى أن يكون معهما فقبلاه، وركبوا قطارا خاصا ولما وصلوا إلى كفر الدوار تلقوا تلغرافا بانتظارالنديم، فانتظروه فإذا هو يحمل إليهم عريضة يخالف نصها العريضة التى يحملونها، لأنه زين لعرابى ألا يظهر الضعف، وأن يكتب إلى الخديو ما يرفع عنه هو ذل الشماتة، ولما وصلوا إلى الإسكندرية تردد الخديو فى مقابلتهم، ثم أمر بالقبض على «الروبى» وسجنه، أما النديم فاختفى عن الأنظار».
وفيما كانت «جبهة عرابى» تعيش هذا البؤس، كانت السعادة تغمر الخديو توفيق وجبهته، وفقا لشهادة أحمد شفيق باشا، أحد كبار الموظفين فى معيته، ورئيس ديوان الخديو عباس الثانى.. يؤكد فى مذكراته: «بينما كنا فى سراى رأس التين ننتظر أخبار الجيش الإنجليزى، إذا بتلغراف من سلطان باشا «رئيس النواب» إلى الخديو ينبئه فيه بتأهب الإنجليز للزحف على التل الكبير، وأثر هذا النبأ فى نفوسنا تأثيرا عميقا، حتى أننا لبثنا من بعده ليلتين فى منتهى القلق والجزع تتجاذبنا عوامل اليأس والرجاء، منتظرين نتيجة هذا الزحف على أحر من الجمر».
يضيف: «فى صباح يوم 13 سبتمبر 1882، تلقى «توفيق» تلغرافا من سلطان باشا، يقول فيه، حصل الهجوم على استحكامات التل الكبير فى الفجر، وأن القتال كان قصيرا، ولم يطل أكثر من عشرين دقيقة، وأسفر عن انهزام العرابيين شر هزيمة بعد أن قتل منهم ألفان، وأسر مثل هذا العدد، وأن الغنائم كثيرة».. يضيف شفيق: «ما كاد الخبر يذاع فى الإسكندرية حتى هرع إلى سراى رأس التين جمهور كبير من المصريين والأجانب، لتهنئة الخديو بانخذال العرابيين، ورأيتهم بنفسى محتشدين فى فناء الطبقة العليا من السراى، وهم يهتفون لسموه وللإنجليز، وبلغ التحمس والسرور ببعض الأجانب أنهم كانوا يخلعون قبعاتهم ويقذفون بها إلى السقف ابتهاجا بهذا الانتصار».