قرر «جزار برقة» الجنرال «غرازيانى» الحاكم العسكرى الإيطالى لليبيا وقف حواره مع عمر المختار قائد المقاومة الليبية، بعد أن رفض المختار طلب الجنرال بإقناع الثوار أن يسلموا أسلحتهم.. كان المختار فى قبضة القوات الإيطالية أسيرا منذ 11 سبتمبر 1931، وجرى اللقاء مع «غرازيانى» صباح 15 سبتمبر 1931، قبل بدء محاكمته فى الخامسة مساء نفس اليوم.. «راجع ذات يوم 11 و12 و15 سبتمبر 2019».
ينقل «غرازيانى» وقائع اللقاء فى مذكراته «برقة الهادئة» ترجمة: «إبراهيم سالم بن عامر».. يؤكد «المترجم» أنه كان شاهدا على محاكمة المختار، بحضورها مع مدير السجن للترجمة له.. يتذكر «غرازيانى» أنه قدم إلى المختار نظارته فى إطارها الفضى وسأله: «هل تعرف هذه؟.. رد: نعم إنها لى ووقعت منى أثناء معركة «وادى السانية».. قال الجنرال: منذ ذلك اليوم اقتنعت بأنك ستقع أسيرا بين يدى.. رد: «مكتوب.. هل ترجعها لى لأنى لم أعد أبصر جيدا بدونها، ولكن ما الفائدة منها الآن هى وصاحبها بين يديك؟.. قال الجنرال: مرة أخرى أنت تعتبر نفسك محميا من الله وتحارب من أجل قضية مقدسة وعادلة.. رد المختار: نعم وليس هناك أى شك فى ذلك، قال الله تعالى: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا». صدق الله العظيم.
واصل غرازيانى كلامه للمختار: «استمع إلى ما أقوله لك أمام قواتى المسلحة.. كل مشايخ ورؤساء العصاة «الثوار» منهم من هرب، ومنهم من قتل فى ميدان القتال، ولم يقع منهم أى أحد حيا بين يدى. أليس من العجيب أن يقع أسيرا بين يدى حيا من كان يعتبر أسطورة الزمن الذى لم يغلب أبدا بل المحمى من الله دون سواه؟».. رد المختار بصوت يدل على القوة والعزم: «تلك مشيئة الله».. رد الجنرال: «الحياة وتجاربها تجعلنى أعتقد وأؤمن بأنك كنت دائما قويا، ولهذا فإنى أتمنى أن تكون كذلك مهما يحدث لك ومهما تكن الظروف».. رد المختار: «إن شاء الله».
وقف المختار ليتهيأ للانصراف.. لا يخفى «غرازيانى» إعجابه الشديد به.. يقول: «كان جبينه وضاء كأنه هالة من نور تحيط به فارتعش قلبى من جلالة الموقف، أنا الذى خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية، ولقبت بأسد الصحراء، ورغم هذا كانت شفتاى ترتعشان، ولم أستطع أن أنبس بحرف واحد».
انتهت المقابلة.. وقف «المختار» محاولا أن يمد يده لمصافحة غرازيانى، لكنه لم يتمكن لأن يديه كانت مكبلة بالحديد.. طلب الجنرال الاجتماع مع رئيس المحكمة الخاصة العقيد المساعد «مارينونى»، والمدعى العام المحامى حامل وسام الضابط الفارس من النجمة الإيطالية «بيدندو» والنقيب «لونتانو» للدفاع، وكلفهم بانعقاد جلسة المحاكمة على الفور.
بدأت المحاكمة الساعة الخامسة مساء 15 سبتمبر بالنداء على عمر المختار، وسؤاله عن تاريخ مولده.. ووفقا لـ«غرازيانى»: «قرأ المدعى العام قائمة الاتهام، وطالب بتوقيع أشد العقوبة وهى الإعدام، وبعدها وجه القاضى سؤالا إلى المحامى المنتدب للدفاع عما إذا كان لديه تعليق، وفاجأ المحامى الجميع وقدم دفاعه».
قال المحامى إنه تردد فى قبول مهمته بادئ الأمر، لكن ضميره حدثه أن يوافق كإنسانية، ثم أكد: «لو أنى التقيت بهذا الرجل فى الشارع لم أتردد لحظة فى سحب مسدسى هذا وإطلاق النار عليه حتى أرديه قتيلا لأنه عدوى وعدو دولتى، غير أن الذى أريد أن أقوله أن هذا الرجل يدافع عن حقيقة كلنا نعرفها وهى الوطن وكم ضحينا نحن فى سبيل الوطن وتحريره».
احتج المدعى العام، ووجه القاضى أوامره للمحامى بأن لا يخرج عن الموضوع ويتكلم بإيجاز، فرد المحامى بحدة: «هنا محل الشرح الكافى إذا كنا رجال العدالة الحقيقية، أما إذا كنا غير ذلك فيجب أن نترك الموضوع وأحكموا بمفردكم ولا لزوم لهذه المحكمة وجلساتها.. إن عمر المختار الذى هو أمامكم وليد هذه الأرض قبل وجودكم فيها، ويعتبر كل من احتلها عنوة عدوا له ومن حقه أن يقاومه بكل ما يملك من قوة حتى يخرجه منها أو يهلك دونها».
صاح الحاضرون احتجاجا ضد المحامى.. طالبوا بإخراجه وإصدار الحكم على المتهم، لكن المحامى واصل دفاعه، قائلا: «هذا المتهم عمر المختار الذى انتدبت من سوء حظى أن أدافع عنه شيخ هرم حنت كاهله السنون، وماذا بقى له من العمر بعدما أتم السبعين سنة، إنى أطلب من عدالة المحكمة أن تكون رحيمة فى تخفيف العقوبة عنه لأنه صاحب حق ولا يضر بالعدالة إذا أنصفته بحكم أخف».
رفعت الجلسة للمداولة.. بعد فترة قصيرة تلا القاضى الحكم بإعدام عمر المختار شنقا حتى الموت.. ترجم الحكم للمختار.. قهقه بكل شجاعة قائلا: «الحكم حكم الله لا حكمكم المزيف. إنا لله وإنا إليه راجعون»..فى الساعة التاسعة صباح 16 سبتمبر، مثل هذا اليوم 1931، اصطف عدد كبير من السجناء السياسيين أخرجوهم لمشاهدة الإعدام.. وجىء بعمر المختار إلى الساحة ونفذ فيه الحكم، أمام أكثر من عشرين ألفا من أبناء برقة.