سبق فى المقالة السابقة بيان موقف الأزهر من التجديد وكيفيته والمعنيين بالتجديد، وتبين أن الأزهر يرى التجديد ضرورة شرعية مضبوطة بضوابط معينة، وأن التجديد صناعة دقيقة لا يقوم بها إلا الراسخون فى العلم من العلماء.
وهنا أبين سبب اعتبار الأزهر التجديد من ضروريات شريعتنا، وإنما أكد مؤتمر الأزهر العالمى لتجديد الفكر الإسلامى على رأيه هذا لما هو معلوم من أن شريعتنا جاءت خاتمة للشرائع كلها ومنهية لصلة الوحى بالبشر؛ فلا وحى ولا نبى بعد رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - ولذا كان من الضرورى أن تبنى بناء متطورًا يناسب أزمنة البشر حتى قيام الساعة؛ فجاءت مرنة، وتميزت بالثبات فى بعض جوانبها التى لا تحتاج إلى تغيير ولا تبديل إلى قيام الساعة، وهى أمور قليلة تكاد تنحصر فى أركان الإسلام الخمسة: الشهادتين والصلاة والصيام والزكاة والحج، وبعض محرمات محصورة كالقتل وجرائم الإفساد فى الأرض والزنى والسرقة وشرب الخمر واتهام الناس بهتانًا وزورًا، وقطيعة الرحم والظلم والغيبة والنميمة وشهادة الزور، وغير ذلك من أمور لا خلاف على تحريمها، وتركت ما لا يحصى من الفروع الفقهية بلا أحكام ثابتة، بل جاءت آياتها وأحاديثها النبوية ظنية فى دلالتها تحتمل أكثر من حكم شرعى فيها؛ ولذا كان التجديد لأحكام مثل هذه الفروع لازمًا كلف به العلماء فى كل زمان ومكان.
وحتى لا يكون التجديد محل جدل بين علماء عصر من العصور، سلكت شريعتنا مسلك التجديد حتى فى أركانها الأساسية؛ فقد تنزلت ركنًا بعد ركن ولم تنزل مجتمعة، فبدأت بالشهادتين، وظل الإسلام ركنًا واحدًا قرابة نصف مدة الرسالة، ثم تلاه ركن الإسلام الثانى وهو الصلاة، فالثالث وهو الزكاة، فالرابع وهو الصيام، فالخامس وهو الحج، وكان ينزل تحريم من آن لآخر لأمر من الأمور، أو تكليف بأمر من الأمور، وبعض الأمور التى يصعب الامتثال لها مرة واحدة سلك شرعنا فيها مسلك التدرج، كما حدث فى قضيتى الخمر والربا.
وإذا كان تنزل الأحكام السماوية اتسم بالتجديد، فكذا سار رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم - سالكًا بتوجيه من ربه نفس المسلك التجديدى؛ ففى أقل من ربع قرن قضاها رسولًا جدد فى كثير من الأحكام، ومن ذلك أنه كان يمنع صحابته - رضوان الله عليهم - من كتابة السنة، ويأمر كتبة الوحى بكتابة آيات القرآن الكريم فقط خشية اختلاط السنة بالقرآن، فيقول: «من كتب عنى شيئًا غير القرآن فليمحه»، حتى اطمأن إلى قدرة صحابته على التفريق بين اللفظ القرآنى والنبوى، فأذن لهم بتدوينها. ومن ذلك أنه كان ينهى عن زيارة القبور خشية تأثر المسلمين بالجاهلية التى كانت تقدس الموتى، ثم طالبهم بزيارتها للعبرة والاتعاظ فقال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تذكر بالآخرة». ومن ذلك أيضًا أن الهجرة كانت واجبة حتى فتح مكة، فأصبح للمسلم أن يقيم فى أى مكان يأمن فيه على نفسه ودينه؛ حيث قال النبى - صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية».
وغير ذلك كثير من الأحكام التجديدية التى ظهرت فى عهد النبوة القصير؛ حيث لم يبلغ ربع قرن من الزمان، وحتى ينتهج العلماء هذا المسلك دون تحرج قال لهم رسولنا الكريم: «إِنَّ الله يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»؛ ولذا سار صحابة رسولنا على منهجه حاملين لواء التجديد، فأوقفوا الصرف للمؤلفة قلوبهم من مال الزكاة كما سبقت الإشارة، وقاتلوا المرتدين بمنعهم الزكاة مع أنهم يقولون لا إله إلا الله؛ وذلك لأنهم أنكروا معلومًا من الدين بالضرورة ولم يكتفوا بعدم إخراجها، وبذلك فإنهم قد تجاوزوا حد المعصية.
وعلى نهج الصحابة سار التابعون والمذاهب الفقهية المتعددة، وبخاصة مذاهب أهل السنة، فهى حافلة بالمظاهر التجديدية، ومن أمثلتها البارزة ما يردده كثير من الناس أن الإمام الشافعى له مذهب قديم وآخر جديد، ويقصدون بالقديم مذهبه فى العراق وبالجديد ما قاله فى مصر، والحقيقة هو مذهب واحد؛ لأن المذهب يقوم على طريقة خاصة بالمجتهد، والإمام الشافعى كغيره من الأئمة له طريقة واحدة هى التى جعلته صاحب مذهب يختلف عن مذهب شيخه الإمام مالك، وعن مذهب تلميذه أحمد بن حنبل، وعن مذهب الحنفية الذين تتلمذ عليهم، وتحديدًا محمد بن الحسن صاحب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان، لكنه اجتهد على طريقة خاصة به، وكثرة الاختلافات بين القديم والجديد هى ما جعل الناس يعتقدون ذلك.
والسابقون لم يكتفوا بممارسة التجديد فقط، بل طالبونا به وحذرونا من الجمود على تراثهم إن اختلف عصرنا عن عصورهم، ومن ذلك مقولة الإمام القرافى الشهيرة: «الجمود على المنقولات من الضلال فى الدين والجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين»؛ ولذا فإن الأزهر لم يطرق باب التجديد بمؤتمره هذا، بل إنه يقوم على فكرة التجديد منذ تأسس قبل أكثر من ألف سنة، وفى تاريخه العديد من الأعلام المعروفين الذين ارتبط اسمهم بالتجديد كالإمام محمد عبده والشيخ دراز وغيرهما، وهو ماضٍ فى طريقه كما أعلن فى مؤتمره اعتزامه عقد مؤتمرات قادمة بعد بحث مسائل معينة مع مختصين فى علومها، وتأسيس مركز للتراث والتجديد، وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة