هذا درس شديد الفاعلية، شديد الإيجاز، شديد اللهجة، شديد التأثير، وزارة الثقافة بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار أحرزت هدفا مبكرا في شباك التطرف والعشوائية والتخبط الذي نعيش في أثره، وقدمت مثالا حيا لما يمكن أن يكون عليه حال المجتمع المصري إذا ما قررنا أن نحارب الانحطاط بجدية، وأن نقدم فنا حقيقيا يقوي المناعة الحضارية للأمة المصرية، فذهبت الوزارة بكامل شحنتها وعلى رأسها الفنانة الوزيرة إيناس عبد الدايم إلى أقاصي الجنوب، وبالتحديد إلى محافظة قنا، لتصنع مشهدا مبهرا شعرت بالفخر لأني أحد شهوده، مشهدا عانقت فيه حضارة مصر القديمة عيون الحاضرين، وفاضت علينا "حتحور" بما تيسر من بهجة لأننا في كنف معبدها المهيب بدندرة، من خلال "مهرجان دندرة الأول للموسيقى والغناء" الذي دشنته وزارة الثقافة ليتحول إلى أول طلعة فنية لجمهور القناوية.
أمواج بعد أمواج، زحفت جماهير قنا إلى معبد حتحور بدندرة، في تحد واضح لكل القيم الزائفة التي تحاصرنا، وبرغم ابتعاد المعبد عن مركز المحافظة، وبرغم تزامن الحفل مع مباراة الزمالك المصيرية، وبرغم ما يشاع من أن المصريين قد انحط ذوقهم في الفترة الأخيرة، لكن الصورة كانت أبلغ من أية معوقات، كان المشهد مهيبا حضاريا مهذبا مبهجا، رجال ونساء، كبار وصغار، الصعيد كان حلوا في قنا، الصعيد كان يغني في دندرة، الصعيد كان يتراقص على "وناس.. بيحب كل الناس" التي أدتها فرقة بلاك تيما، الصعيد كان يتمايل مع "النور مكانه في القلوب" التي أبدع فيها مدحت صالح، الصعيد شعر أخيرا أن له من الفن نصيب، ليتحقق شعار "العدالة الثقافية" الذي رفعته وزارة الثقافة ويصبح أمرا واقعا بعد أن حبرا على ورق.
في هذا اليوم الجميل تألقت فرقة بلاك تيما التي يقودها الثلاثي (أمير صلاح الدين وأحمد بحر ومحمد عبده) مقدمة نموذجا مبهجا للفن الشاب الذي يحتفي بتاريخه ويقدس مكونات وجدانه، وكانت البداية بإلقاء تحية بالغة الرهافة للفنان الكبير محمد منير من خلال غناء مقطع من أغنية الجميلة "علموني عنيكي أسافر" ثم تصريحهم على لسان الفنان "بحر" بمدى ما يشعرون من فخر لأنهم يشاركون فنانا كبيرا مثل "مدحت صالح" في هذا الحفل، وهو أمر من وجهة نظري يحمل رسالة أخلاقية وحضارية تكاد توازي في روعتها وأهميتها رسالهم الفنية التي اجتهدوا في تقديمها والعمل عليها، فطافوا بنا بين أغنياتهم الجديدة والقديمة، ثم اختتموا بالأغنية السودانية الرائعة "يا مسافر جوبا" ليأكدوا على انتماء مصر الأفريقي واحتفاء الشعب المصري بالمنجز الجمالي لشقيقتنا العزيزة "السودان".
أما النجم الراسخ "مدحت صالح" فقد تفوق على نفسه في هذا الحفل، بروحه الحلوة، ودقة اختياراته، وتفجر حنجرته بكل ما هو مبدع، ليثبت للجميع أنه مثل الذهب، لا يشيخ ولا يصدأ ولا يتغير بتغير الزمان والمكان، لكن أهم ما أثبته "صالح" هو أن الأذن المصرية مازالت بخير، وأن الجمهور حينما يجد الأصالة والاحترافية في شخص لا يتورع عن تقديم كل آيات العرفان والتقدير، كان مدحت صالح في هذا اليوم ممثلا للفن الحقيقي، ووضع الله في حنجرته "شفاء للناس" من التلوث السمعي والبصري الذي يحيط بنا، وكان جمهور "قنا" البطل رقم 1 في هذه المعادلة، ساعده في هذا فرقة موسيقية عريقة ومحترفة يقودها الموسيقار الكبير "عمروسليم" الذي أمتع الجميع بتقسيمة راقية على آلة "الأورج" داعب فيها الأذن الشرقية ومس فيها روح الموسيقى.
وأضاءت وزارة الثقافة بهذا المهرجان "شمعة" بدلا من لعن الظلام الذي يحترفه البعض على مواقع التواصل الاجتماعي، فلم تصدر الوزارة بيانا لتدين "حفل استاد القاهرة" الذي استضاف مطربي المهرجانات، ولم تدخل في معركة كلامية لا طائل من ورائها ولا فائدة، لكنها قدمت نموذجا لإحياء الفن الراقي، فهل نساعدها في مهمتها بالتفاعل مع أنشطتها ودعمها؟ هذا هو السؤال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة