"نحترم الشرعية.. ولكن آن وقت مراجعتها".. هكذا قال الرئيس التونسى قيس سعيد قبل أيام، في خطاب التكليف الذى بعث به إلى رئيس الحكومة الجديد هشام المشيشى، بعد شهور من الجدل حول أداء الحكومة السابقة، برئاسة إلياس الفخفاخ، والموالية لحركة النهضة، والتي تمثل أغلبية مقاعد البرلمان، والذى دفع البلاد نحو أزمة حقيقية، في ظل الصفقات المشبوهة التي تسعى لإبرامها، والتي تمثل تهديدا لأمن تونس القومى، عبر دعم الميليشيات في ليبيا، أو حتى في الداخل في ظل تورط عناصر الحركة وعائلاتهم في شبهات فساد، ناهيك عن حالة التدهور الاقتصادى والاحتقان المتزايد في الشارع التونسى.
إلا أنه بعيدا عن أننا أمام حلقة جديدة من مسلسل فشل الإخوان، يبقى تصريح الرئيس التونسى حول شرعيتها، كاشفا إلى حد كبير لمعضلة "النهضة"، ومن ورائها الجماعة التي تديرها، والتي تجلت بوضوح ليس فقط في المشهد التونسى الأخير، وإنما في العديد من الدول الأخرى، خلال سنوات ما بعد "الربيع العربى"، حيث اعتمد التنظيم الإرهابى، على ما آلت إليه الصناديق الانتخابية، في ظروف تبدو استثنائية، لتصبح مصدرا لـ"الشرعية" لسنوات، يمارس خلالها أعضائها ما يحلو لهم من إقصاء وتخوين و"أخونة" وانتهاك كل قواعد السياسة والأمن، بينما يصبح العنف سلاحهم الوحيد في مجابهة المعارضة.
وصول الإخوان في تونس إلى أغلبية المقاعد البرلمانية يحمل ظرفا استثنائيا، ارتبط بحالة من انعدام الثقة بين المواطن وكافة أطراف اللعبة السياسية، ومن بينها الأحزاب، نتيجة ممارسات الماضى، وهى الحالة التي لم تقتصر على المشهد السياسى التونسى، وإنما امتدت إلى العديد من دول العالم، شرقا وغربا، وهو ما يتجلى بوضوح في صعود قطاع كبير ممن يمكننا تسميتهم بـ"المغمورين سياسيا" إلى سدة السلطة في بلدانهم، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذى لم يكن له باع طويل في السياسة قد وصوله إلى عرش البيت الأبيض، وهو ما يمكننا ترجمته أيضا في اكتساح الرئيس قيس سعيد للانتخابات الرئاسية الأخيرة، على الرغم من كونه لا ينتمى إلى أي حزب سياسى، في امتداد لظاهرة دولية تعكس بجلاء حالة من التمرد في الشارع الدولى، على التابوهات السياسية التقليدية.
وهنا يمكننا القول بأن مفهوم الشرعية في رؤية الرئيس التونسى، يختلف جذريا عن رؤى الجماعة، فهو استمد شرعيته من المواطن مباشرة، عبر التلامس مع قضاياه ومخاوفه، دون أجندة حزبية أو حسابات سياسية، أو صفقات مشبوهة، لتصبح مرهونة بعمله الدائم من أجل تحقيق مصالح مواطنيه، بعيدا عن أية حسابات ضيقة، ويبقى المواطن صاحب الحق الأصيل في سحب "الشرعية" من السلطة الحاكمة إذا ما حادت عن العهود التي قطعتها على نفسها.
بينما تبقى "شرعية" الإخوان مرهونة بـ"أعداد" صماء، من الأصوات، التي اعتمدت فيها الجماعة على سياسة "الحشد" المعروفة، فى الوقت الذى أحجمت فيه قطاعات كبيرة من الشارع التونسى، عن المشاركة، في احتجاج ضمنى على البرامج المعروضة، ليصبح الطريق ممهدا لـ"النهضة" للاستيلاء على أغلبية بسيطة من المقاعد، لم تتجاوز الـ52 مقعدا من أصل 217.
المفهوم الذى تعتمده الجماعة لـ"الشرعية" يمثل انعكاسا صريحا لحالة من العجز عن ملاحقة تطورات السياسة الدولية، والتغير الكبير الذى بات يضرب المفاهيم التقليدية، وهو الأمر الذى لا يقتصر على النطاق الإقليمى، والذى بدا في سقوط أنظمة تحمل "شرعية الصناديق" إبان "الربيع العربى"، وإنما أصبح يمتد لنطاقات دولية أكثر اتساعا تشمل دول الغرب الأوروبى والولايات المتحدة، وهو ما يظهر بجلاء في الاحتجاجات التي تشهدها دولا كبيرة على غرار فرنسا، والولايات المتحدة، والمطالبات بإسقاط أنظمة سبق اختيارها عبر الصناديق.
ولكن تبقى الكرة في النهاية في ملعب المعارضة التونسية، والتي ينبغي أن توحد صفوفها في المرحلة المقبلة، من أجل مجابهة الجماعة، التي تخاطر بأمن بلادهم، خاصة وأن انتصارهم في تلك المعركة من شأنه استعادة قدر كبير من ثقة الشارع في المرحلة المقبلة، وهو ما يبدو بوضوح في النجاح الكبير الذى يتحقق في الأشهر الماضية بفضل نضال عدد كبير من رموز المعارضة، وعلى رأسهم البرلمانية القديرة عبير موسى وغيرها.