بوجه بشوش لا تفارقه الابتسامة، ونظرة لامعة تحكى سنين طويلة من الكفاح والعمل، وروح راضية ومبهجة تعانق الحياة بالحب، يجذبك سيدة خمسينية تزهر فى سوق بهية للخضار بمدينة بلقاس، وهى تطوع العجين بيداها التى ملأها الشقى، وتصنع المخبوزات الفلاحى برائحتها الذكية ومذاقها الشهى، راسمة لوحة فنية بديعة تحكى فيها عن ماض أصيل لم تنته جذوره وحاضر يحيى بإرادة وعزيمة وأمل.
عاشت هانم عبدالحميد طفولتها مع أسرة ريفية فى محافظة الدقهلية، تقدر العادات والتقاليد الريفية الأصيلة، الأب كان بالنسبة لها السند والروح والمرشد ومصدر الإلهام والقوة، علمها معنى الحياة، الذى تستطيع من خلاله أن تكافح معتمدة على ذاتها وكيانها، تحيا بعزة وكرامة وراحة بال، أما الأم فكانت ولا تزال الدرع الحصينة التى حماها وأعطاها الأمان، منحتها الحب والصبر والحنان، علمتها الشموخ لتعش ببساطة، وأثقلت روحها بالثقة والكبرياء لتفوح فى الحياة تواضعا، زينتها القناعة والرضا.
رصدت عدسة "اليوم السابع"، لحظات مبهرة تحكى أشعارا فى الكفاح والشقى، لهانم عبدالحميد، وهى تطوع قطع العجين بين كفوفها، لساعات طويلة، تسابق الزمن لتحضير أشهى المخبوزات الفلاحى من الفطير المشلتت، والعيش الفلاحى، والكفافى، والكوماج، برائحتهم الذكية ومذاقهم الشهى، بحثا عن الرزق الحلال وتوفير حياة كريمة لأبنائها.
وقالت هانم عبدالحميد البالغة من العمر خمسين عاما لـ"اليوم السابع"، إنها تربت على الكفاح وتحمل المسؤولية منذ طفولتها، فكان والدها يحثها على الاهتمام بالتعليم لتكون امرأة قوية مثقفة لها كلمة مسموعة وقادرة على النجاح فى الحياة معتمدة على ذاتها وكيانها، وبالفعل استطاعت أن تنجح فى التعليم وتحصل على دبلوم تجارة، كما ربتها والدتها على العادات والأخلاقيات الريفية الأصيلة، التى تؤهلها للزواج ورعاية أبنائها وتربيتهم تربية صالحة، مضيفة أن تلك التربية هى ما جعلتها نموذجا للعطاء والتضحية يفتخر أبناؤها به.
"اشتغلت وتعبت فى حياتى كتير علشان أربى أولادى بالحلال.. والشغل مش عيب"، هكذا عبرت "هانم"، عن رحلة كفاحها لأكثر من ثلاثين عاما، فقالت إنها قررت منذ زواجها أن تساعد زوجها وتتحمل معه المسؤولية لمساندته فى المعيشة، وتأمين مستقبل أبنائها، مشيرة إلى أنها بحثت عن الرزق الحلال بالعمل فى أكثر من مجال، حيث إنها قبل أن تدخل مجال تحضير وبيع الفطير المشلتت، عملت لفترة طويلة فى المنازل، كما عملت فى إحدى معامل الدجاج بمدينة جمصة، ثم عملت لفترة لم تكلل بالنجاح فى مطعم للبيتزا والفطائر، مؤكدة أن بالرغم من فشلها فى النجاح فى تلك المجالات، إلا أنها لم تيأس لحظة من مواصلة رحلة الكفاح، لتلبية احتياجات ابنها إسلام البالغ من العمر 29 عاما وابنتها أميرة البالغة من العمر 25 عاما.
واستطردت أنها اتجهت لمجال تحضير المخبوزات الفلاحى بكل أنواعها فى مدينة بلقاس منذ ثلاث سنوات، بعد أن أغلقت جميع الأبواب فى وجهها، مشيرة إلى أنها فكرت فى مجال آخر تجد ذاتها فيه وتحاول من خلاله تحقيق النجاح، فقررت أن تستفيد من تعليم والدتها لها لطريقة إعداد العيش الفلاحى والفطير المشلتت فى الفرن القش منذ الطفولة، وتفتتح مشروعها الخاص ليكون بداية انطلاقتها نحو النجاح وصنع اسمها لها فى الأكل الفلاحى الأصيل.
وقالت إن الفطير المشلتت يعد أكثر أنواع المخبوزات صعوبة فى إعداده، حيث يحتاج لمهارة وإتقان وخبرة كبيرة ونفس يبدأ من تجهيز العجين بوضع المياه والملح والسكر دون خميرة وتركها لدقائق، وتشكيلها على هيئة قطعا صغيرة، وفردهم وترقيقهم بالنشابة، ووصولهم للفرن، وصولا ليد الزبون على هيئة فطير سادة ومحشو بالعسل والعجوة والجبن واللحم.
وأضافت أن الفطير المشلتت يتم تحضيره على أصوله بإضافة قطع الزبدة والقشطة والسمن البلدى والقليل من زيت الذرة، ففى البداية تقوم بتحضير العجين، بإضافة 3 كيلو من الدقيق وعليهما ملعقة سكر وملعقة من الملح، ثم تضيف إليهما كمية من الماء الدافئ الذى سيسهل من عملية الفرد فيما بعد، ثم تقوم بخلط جميع المكونات سويا حتى تصبح جيدة التشكيل، ومن ثم يتم تقطيع العجين لقطع صغيرة يتم تركها بضع دقائق حتى ترتاح ومن ثم يتم فردها وترقيقها بالنشابة، لتكون ناعمة ومطاطة حتى تصبح على شكل دائرة كبيرة، ثم يتم إضافة خليط السمنة البلدى والزيت والقشطة عليها، وتطبيقها لعدة ثنيات، يتخللها قطرات الزيت والسمن البلدى، وبعد ذلك تترك العجينة بضع دقائق لترتاح قبل إدخالها للفرن.
وأوضحت أن بعد مرور عدة دقائق يتم تجهيز صوانى الفرن ودهنهما بقليل من السمن ومن ثم فرد الفطائر فيها من الأقدم للأحدث يدويا بشكل دائرى حتى يتم توزيعها على مساحة الصينية وبسمك رقيق، مع مراعاة أن يكون الفرن ساخنا جيدا على أعلى درجة حرارة قبل إدخال الصينية، ثم يتم إدخال الصينية به ومراقبة وجهها ودرجة احمراره، وبعد مرور ما يقرب من ربع ساعة يصبح الفطير المشلتت جاهزا للأكل برائحة السمن البلدى النفاذة التى تملأ المكان.
وقالت أنها تقوم بإعداد الفطير بكل أنواعه، السادة منه والشرقى المحشو بالجبنة القريش أو الجبن المشكل، أو اللحم المفروم أو شاورما الدجاج، أو العسل، أو المربى، كما تهتم بطبيعة دسامة الفطير قبل تحضيره، مشيرة إلى أن بعض الزبائن يميلون أكثر للفطير السادة قليل الدسم؛ حفاظا على نظامهم الغذائى الصحى، وبالتالى تقوم بتلبية رغبتهم بتحضير فطير مشلتت خفيف على المعدة بإضافة قليل من السمن البلدى، مما يجعل الفطيرة مقرمشة وخفيفة، ويزداد الإقبال عليها من قبل محبى وعشاق الفطير المشلتت من جميع محافظات مصر.
وعن طريقة تحضير الكفافى، قالت "هانم"، إن مقادير إعداده عبارة عن خلط كمية من اللبن الرايب والقشطة والزبدة والجبنة القريش والسمن البلدى والدقيق، ثم تقوم بتقطيع العجين لقطع صغيرة وتبدأ فى فردها على شكل دوائر صغيرة يتم دهنا بالقشطة والسمن البلدى وزيت الذرة وقليل من الملح، ثم يتم ترتيبها على صوانٍ مدهونة بالزيت، ويتم إدخالها للفرن لبضع دقائق حتى يصبح لونها ورديا وجاهزة للأكل.
وأضافت أن المهنة لها أصولها وأسرارها، التى تعلمتها من والدتها منذ أكثر من ثلاثين عاما، حيث كانت تهتم بتعليمها الخبيز وطهى طواجن الرز المعمر برائحته الذكية ومذاقه الشهى بالسمن البلدى على الفرن القش، وإعداد الطعام بكل أنواعه على الكانون فى الريف، بجانب دراستها فى دبلوم التجارة، مشيرة إلى أن حياة الريف بكل تفاصيلها هى ما أكسبتها خبرة فى الحياة وقوة تحمل للكفاح والعمل فى أكثر من وظيفة لتوفير حياة كريمة لأبنائها.
فى لحظات تهيم لها الروح، تذكرت معنا "هانم"، حياة الريف قديما، قائلة: "الريف هو الأصل والبساطة والنقاء، فكان أبنائه يعيشون كأسرة واحدة يتقاسمون اللقمة سويا، فى جو تفوح منه المحبة والرضا، يذهبوا للحقول لزراعة الأرض، ويرعون المواشى، ويطهون فى الفرن القش والكانون أشهى رز معمر وطاجن مسقعة وفطير مشلتت وعيش فلاحى بالسمن البلدى، كان يوم الخبيز يوم عيد يجتمع فيه الصغار والكبار أمام الفرن القش ينتظرون بلهفة لحظة خروج العيش من الفرن لتناول الجبنة والعسل مع السريس، فى انتظار خروج دفعة جديدة من العيش من الفرن، كنا نرضى بالمقسوم ونحيا بالرضا والحب والخير".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة