الأعداد الكبيرة التى تقدمها الجامعات المصرية من الرسائل والأبحاث العلمية تدعونا إلى البحث والتأمل فى جدوى هذه الدراسات ومدى تأثيرها المباشر على وضع التعليم، وتصنيفات الجامعات، فلو أن هذه الرسائل تحمل أطروحات جادة وتقدم أفكاراً لامعة لكان الوضع مختلفاً فى مستوى البحث العلمى، سواء العلوم التطبيقية أو النظرية، إلا أن الحقيقة البحث العلمى مازالت مشكلاته الأساسية قائمة، ومازال كماً كبيراً دون كيف هادف أو مؤثر.
البحث العلمى فى الجامعات لا يرتبط فقط بنقص الإمكانيات أو الروتين وغياب المعامل وما يحتاجه الباحثون، بل يرتبط بصورة أساسية بندرة الأفكار وجودة الموضوعات والقضايا محل الدراسات، ولك أن تتصور أن هناك 32 ألف بحث علمى مصرى منشور فى مجلات ودوريات علمية، خلال العام 2020، وفق بيان رسمي لأكاديمية البحث العلمى، بمعدلات نمو 25% عن العام 2019، وبالطبع لا يمكن أن نعتبر هذا مؤشراً سلبياً، ولكن السؤال الأهم:" ما انعكاسات هذه الأبحاث على المجتمع؟! وماذا قدمت لخدمته؟! وكيف أثرت على مستوى جودة التعليم؟!، خاصة أن المعادلة ليست كمية وعددية بقدر ما ترتبط بجودة الأفكار.
الخبراء يؤكدون دائماً أن "الأفكار المجنونة تغير العالم"، إلا أن المتأمل فى وضع الرسائل العلمية، خاصة بالكليات النظرية فيجد عددها كبير جداً وعناوينها متشابهة ومكررة، لدرجة أن بعض الأساتذة قد يجد نفسه مسئولاً عن المتابعة والإشراف لنحو 30 رسالة علمية سنوياً، وهذا رقم كبير جداً وغير موجود فى أى دولة فى العالم، فكيف يوفر الوقت للجلوس مع كل هؤلاء الباحثين؟ وكيف يقدم لهم التوجيه اللازم؟ وكيف يطور معهم الموضوعات البحثية والأطروحات التى يقدمونها.
خطر كبير جداً أن يتم ربط البحث العلمى بفكرة "أكل العيش"، فبعض الباحثين بدأ ينظر إلى الموضوع بمنطق تجارى بحت، دون أن يكون للموضوع علاقة بالإضافة العلمية أو العائد على المجتمع من الدراسات والأبحاث المقدمة، فمثلاً نجد الباحث يسارع إلى الماجستير، ثم الدكتوراه حتى يحصل على "سبوبة" تدريس فى جامعة خاصة أو معهد خاص، وبات الأمر تجارة رائجة، لتبقى فكرة الرسالة والعلم مجرد شعارات دون جدوى.
خطر آخر داهم يتمثل فى اتجاه البعض إلى البحث العلمى من باب "التسلية وتمضية أوقات الفراغ"، فبدلاً من الجلوس فى المنزل دون عمل، أو المحاولة فى الحصول على فرصة، يسلك البعض طريق التحول إلى "باحث ماجستير" أو "دكتوراه"، ليصير البحث العلمى وظيفة... وتسأل أحدهم ماذا تعمل؟ فيجيب بكل ثقة: " أنا باحث ماجستير أو دكتوراه أو بحضر الدبلومة الفلانية أو العلانية"..
لا يمكن أن نطمح فى تقدم البحث العلمى إن كنا نفكر بهذه الطريقة، ولا يمكن لباحث أن يقدم جديداً لمهنة أو صناعة دون أن يمارسها أو يعمل فيها، فهذه أبجديات نتحدث عنها منذ سنوات بعيدة ونقولها دائماً تحت مسمى "الفجوة بين النظرية والتطبيق"، وهنا ليست فقط مجرد فجوة بل غياب كامل، فمن باب العجب أن يقدم باحث فرضيات وأطروحات لمهنة أو وظيفة لا يمارسها!!
منطق ساذج جدا أن يفكر البعض فى البحث العلمى من باب التسلية وإضاعة الوقت أو الوجاهة الاجتماعية، ولهذا لا أتعجب من كل هذا الكم الكبير من الرسائل العلمية سنوياً، فجامعة القاهرة على سبيل المثال تقدم 3 آلاف رسالة علمية فى العام تقريباً، فى حين أن عشرات بل مئات الأبحاث لا جدوى منها.
كارثة كبيرة أن يتم التعامل مع البحث العلمى والرسائل الأكاديمية بمنطق "عبيله واديله"، فيجب أن تكون هناك ضوابط صارمة لمن يعمل فى البحث العلمى، وكذلك المحتوى الذى يقدمه، وفى الماضى القريب كنا نسمع عن رسائل علمية غيرت قواعد وكسرت روتين وتحدت الظروف، وصار أصحابها أعلاماً ومشاهير، نتيجة ما قدموا من جهد علمى مرموق يستحق التقدير والإشادة، ويمثل ذخيرة ثقافية وحضارية مهمة يتم الرجوع إليها دائماً، بينما بات الأمر الآن أشبه بعناوين متشابهة ومتون هزيلة، وأطروحات إما تقليدية بائسة أو غير موجودة أصلاً فى الواقع.
القضية كبيرة وأطرافها ممتدة بين وزارة التعليم العالى والجامعات المصرية، وضمير الأساتذة، ويجب أن تكون لها ضوابط ومعايير تكفل الحفاظ على البحث العلمى وتقدم أطروحات حقيقية تساهم فى دعم المجتمع وتضيف للمكتبة العلمية، بدلا من تحول الموضوع إلى مجرد أعداد وأرقام نسمع عنها ونعلنها دون أن يكون لها أى عائد أو صدى ومردود حقيقى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة