كان أحمد حسنين باشا، رئيس الديوان الملكى، ملأ اسمع والبصر في زمنه عاش بين عامي (1888- 1946) ورحل في حادث مرروى على كوبرى قصر النيل فى فبراير 1946، وقد رثاه الكثيرون، ومنهم الأديب أحمد حسن الزيات في افتتاح مجلة الرسالة.
يقول أحمد حسن الزيات فى مجلة الرسالة العدد 660:
مات صاحب المقام الرفيع والخلق الرفيع والأدب الرفيع أحمد باشا حسنين فى غير الميادين التى تحدى فيها الموت!!
تحداه فى الصحراء المجهل حين رحل، وفى السماء المرعدة حين طار، وفى الداء العقام حين مرض، فخنس عن تحديه، ثم اختلسه اختلاساً فى حادث من حوادث القدر على غفلة من إرادته وحيويته!! ولو كان الموت حليفاً للحياة لأمهل الفقيد حتى يتم عمله الذى تهيأ له بخير الفضائل والوسائل من تربيته وخلقه وثقافته وتجربته؛ ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر!
كان أحمد باشا حسنين - سقى الله بصيّب الرحمة ثراه - مزيجاً حلواً من طبيعتين كريمتين: صوفية مؤمنة، وعسكرية مغامرة. أخذ الأولى عن أبيه وكان من علماء الدين فى الأزهر، وورث الأخرى عن جده وكان من أمراء البحر فى الأسطول. أما أثر البيئة الأزهرية فيه فخلوص العقيدة، وبلاغة الأسلوب، واستقامة الطريقة؛ وأما فضل الوراثة العسكرية عليه، فحبه للنظام، وولعه بالرياضة، وميله إلى المخاطرة. ثم تخرج فى اكسفورد فوجدت هاتان الطبيعتان فى البيئة الإنجليزية والثقافة السكسونية الغذاء الناجع والجو الصالح، فنمتا أعظم النمو، وأثمرتا أكرم الثمر. والخلق الإنجليزى الأصيل قائم على جوهر هاتين الطبيعتين وفى هذا سر نجاحه.
كان الفقيد الكريم رياضى الروح والعقل والجسم؛ فمن رياضة روحه نبالة نفسه، ومن رياضة عقله سلامة تفكيره، ومن رياضة جسمه شجاعة قلبه. وهذه الصفات هى التى تنذر فى أكثر الناس، وتعسر على قادة الشرق؛ لذلك كان فقد أمثاله رزءاً لا يحتمل وخسارة لا تعوض.
وكان من خواص الأدباء وبلغاء الكتاب؛ وكتابه (فى صحراء ليبيا) وآثاره فى منشآت (القصر) تتسم بسمة الفكر الناضح والذوق السليم والفن العالي. والبلاغة ظاهرة من ظواهر القوة، وأدب اللسان مظهر لأدب النفس.
وكان من حملة العرش الأقوياء الأوفياء المخلصين. آثر التاج بحبه، وآزره بقلبه، و السفارة بينه وبين شعبه. ومن اعتدال الزمان وإقبال الأمور أن تكون بطانات الملوك من هذا الطراز: رأس مفكر، ولسان عف، ويد طاهرة، وقلب مؤمن.
ومما يُطمئن القلب على سلامة الفطرة فى هذه الأمة أنها أجمعت على حب هذا الرجل، فكأنها تحب الفاضل لذاته، وتكره أن يدخل الهوى فى تقدير حسناته.
إن الشعب الفقير فى الرجال خليق بأن يطول حزنه على فقد رجل. وإن المصاب فى أمثال أحمد باشا حسنين مصاب فى الكيف لا فى الكم، وفى الجوهر لا فى العرض، وفى الرعاية لا فى القطيع. تغمده الله برحمته، وأجزل له ثواب المتقين فى جنته، وأخلف بالخير على أسرته وأمته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة