كان الشائعُ طويلاً أن القاهرةَ تكتبُ، وبيروتَ تطبعُ، وبغدادَ ودمشقَ وغيرهما يقرأون. هذا التصوُّر الذى جرى مجرى الحقيقةِ عقودًا وأجيالاً لم يعُد دقيقًا. بالطبعِ ما تزال القاهرة تكتبُ، لكنَّها أصبحت أقلَّ نفاذًا إلى مطابعِ الخارجِ وقُرَّائه، حتى لو أنكرَ الكَتَبةُ ذلك. انفجارُ الكتابةِ نفسُه لا يجعلُ الإنكارَ دليلاً؛ فالسوقُ كاسدةٌ والبضاعةُ راكدةٌ والباعةُ أكثر من المُشترين، ومن الطبيعىِّ أن يُدافع كلُّ فريقٍ عن حَوزتِه وما جَنَت يداه!
منذ أواخرِ تسعينيَّات القرن المُنقضى، دخلت مصرُ طورًا جديدًا فى مسألة الثقافةِ والكتابةِ والنَّشر. تعاظمَت ماكينةُ صناعة الأقلام، وتفاقمت تجلِّياتُها باتِّساع حيِّز الاتِّصال وبروزِ الإنترنت والمُنتديات وصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعيَّة. وجدت الخواطرُ الشخصيَّة طريقَها إلى المُتلقِّين؛ فالاستحسان والرواج، ما ساعد فريقًا - كانت تنقضى خواطرُه بانقضاء مُراهقتِه - فى النفاذ إلى سوق الكتاب. زاد الطلبُ وتلقَّفه مُثقَّفون وتُجَّار، فتضخَّمت أعدادُ دورِ النَّشرِ سريعًا، وابتكر الوافدون الجُدد وسائلَ مُغايرةً لاستقطابِ الزبائن وترويج البضائع. أصبحُ الجميع كُتَّابًا وناشرين، مُقتطعين نسبةً لا بأس بها من القُرَّاء المُحتملين، وعاجزين عن صيانةِ ميراثِ الآباء فيما يخصُّ وضعيَّة السوق المصرية إقليميًّا، وبروزِ نجومِها خارجيًّا، والقدرةِ على إدارةِ مطابعِ الخارج وشَغْل عُقولِ القُرَّاء على امتدادِ الخارطة.
كلُّ وافدٍ جديدٍ على الكتابةِ جاء حاملاً جمهورَه خلفَ ظهرِه وفى قائمةِ مُتابعيه الافتراضيِّين، وكلُّ ناشرٍ دخلَ السوقَ مُتسلِّحًا بمُفردات عصرِ الاستهلاك والرَّواجِ الخاطف. صنعنا حالةَ صخبٍ تصم الآذانَ وتُثير الغبارَ طوالَ الوقت، لكن لم نصنع ثقافةً حقيقيَّةً. لدينا آلافُ الكُتَّابِ وعشراتُ آلافِ الكُتب، وليس لدينا نَجمٌ بارزٌ يُشارُ إليها بالداخل أو الخارج. قديمًا كان بإمكانِ كاتبٍ شابٍ أن يتصدَّر الساحةَ ويُصبحَ نجمًا بكتابٍ أو قصَّةٍ أو قصيدة؛ ليعرفَه الناسُ وتتلقَّفه الصحفُ وتُفتح له قاعاتُ كبارِ الزوَّار فى دول المنطقة. أغلبُ مُثقَّفى الأجيال الماضية عاشوا عقودًا وسنواتٍ من حياتهم نجومًا، أمَّا كُتَّابُ الآن فما يزالون شبابًا وهواةً وواعدين؛ حتى بعدما تجاوزوا الأربعين والستِّين، وأوشكت مشاريعُ بعضِهم على الانتهاء أو الإغلاق.
رُبَّما شحبت الكتابةُ الفارِقة، وربَّما يتَّصل الأمرُ بانزواءِ النُّقَّاد أو ضعفِهم، وغيابِ حركةِ فرزٍ وتقييمٍ تُواكب انفجارَ الإنتاج. كلُّ الاحتمالاتِ تقبلُ الطرحَ ولها حظٌّ فى الوجاهة؛ لكنَّها جميعًا تُعلِّقُ الجرسَ فى رقاب المُثقَّفين. لو العيب فى الكتابةِ فلعلَّ المواهبَ باهتةٌ أو تعجَّلت الحصادَ قبل الزَّرعِ ورعايةِ الحقلِ، فأطلقتْ رصاصاتِها المُتوهَّمَة من بندقيَّةٍ فارغةٍ ليس فى صدرِها ما يُقال. لو ألقينا العبءَ على النَّقدِ فالأزمةُ أيضًا تخصُّ مُثقَّفين عاجزين عن الاضطلاع بأدوارهم، وربَّما تخصُّ ساحةً ثقافيَّةً خفيفةً وأوهنَ من أن تُوفِّر الحاضنةَ اللازمة لمُحبِّى الأدبِ ودارسيه، وتُربِّيهم كما تربَّى سادتُنا النُّقُاد السابقون فى ساحاتٍ ووسط مُثقَّفين سابقين. أمَّا لو كان العيبُ فى انفجارِ الإنتاج نفسِه، فالإدانةُ ترتدُّ إلى صُدورِ الجميع، كتبةً ونُقَّادًا وناشرين، خاصَّة الأخيرين؛ لأنَّهم عبثوا بالسوق إلى درجةٍ قد تضعُ ما فعلوه فى حيِّز الجريمةِ المُكتمِلة!
انفجرت سوقُ الكتابةِ، وأفرزت بانفجارِها وسائل شعبويَّةً للذِّيوع. كان طبيعيًّا أن يُراهنَ بعضُ الهُواةِ الجُدد على الخفَّةِ والتسليع والعاطفيَّة وخطابات الشَّحنِ والتوجيه واستجداء التفاعل. لم يكن مفهومًا بالمرَّةِ أن يلجأ ناشرون لتلك الأدوات أو ما يُشبهها؛ سعيًا إلى استحلابِ الظاهرةِ، ونفخِ "البالونة" حتى آخرها. من ذلك تقسيمُ الطَّبعةِ الواحدةِ إلى عدَّة طبعاتٍ بأعدادٍ ضئيلة؛ لإيهام الناس بالإقبال. بعضُ الناشرين وصلوا بالأمر إلى 100 نسخة فى الطبعة، وبعضُهم لا يطبعون إلا 20 نسخة نصفها لرقم الإيداع والنصف للكاتب. من ألعابِ التحايُلِ أيضًا مسألةُ قوائم الأكثر رواجًا. دارُ نشرٍ شهيرةٌ للغاية كانت تُرسِلُ نُسَخًا من كُتبها للمكتبات، ثم تُرسل من يشترونها، لتُعيد إرسال النُّسَخِ نفسِها على أنها دفعةٌ جديدة، وتضمن دخول العناوين المُختارة منها فى قوائم الرَّواجِ الكاسح. دُورٌ أخرى أسَّست مطابع أو اتَّفقت مع أُخرى قائمة لتزوير كُتبها وتسويقها فى طبعاتٍ شعبيَّة؛ ما يضمنُ لها استهدافَ فئاتٍ أوسع وتحقيقَ أرباحٍ أضخم، بعيدًا من الضرائب أو حقوقِ المُؤلِّفين، وقبل كل هذا وبعده ما تزال أغلب دُور النَّشرِ العاملةِ بالسوق تحصل على قيمةِ الطباعة كاملةً من الكاتب، والمُتساهِلون يتقاضون نصفَ التكلفة، وجميعُهم لا يطبعون المُتَّفَق عليه ولا يُسوّقونه فعلاً ولا يردُّون حقوق المُتعاقدين.
تطبعُ مصرُ نحو 30 ألف عنوانٍ سنويًّا، على التقريب، بإجمالى يتجاوز 20 مليون نسخةٍ بقليل. ربَّما لا تقلّ العناوينُ الإبداعيَّةُ عن نصفِها، لكن بالنظرِ إلى أن العددَ يشملُ كُتبَ المدارسِ والجامعاتِ والإصداراتِ الدينيَّة الرائجةِ، فقد تكون مبيعاتُ المُبدعين جميعًا مُزريةً للغاية على صعيد الأرقام. سوقُ النشرِ عالميًّا تتجاوز 151 مليار دولار، بحسبِ اتِّحاد الناشرين الدوليِّين، تستحوذُ الدولُ صاحبةُ المراكز الخمسة الأولى على 57% منها، مقابلَ 43% لبقيَّة العالم. إقليميًّا تُسجِّل السوقُ فى بعض التقديرات نحو مليار دولار، لا تزيد حصَّتنا منها على 5% فى أفضل الظروف. بينما ننشرُ قرابةَ ثُلثِ العناوين الصادرةِ عربيًّا، نُحقِّق نصفَ العُشْرِ فقط من العوائد. أكبرُ ناشِرَيْن فى مصر من حيث العناوين وأعداد البيع حُكوميَّان (قصور الثقافة وهيئة الكتاب) لكنَّهما فى مرتبةٍ مُتأخِّرةً من حيث قيمة المبيعات والعوائد الصافية، لعلَّ هذا الأمر يُشيرُ إلى انفلاتٍ فى التَّسعير ومُغالاةٍ من بعض الدُّور الخاصَّة، وإلى إدارةٍ بمنطقِ التجارةِ فقط، دونَ أيَّة اعتباراتٍ ثقافيَّة.
لا لومَ على الناشرِ إن قرَّر أن يكون تاجرًا؛ لكن فى المُقابل لا معنى لأن يذرفَ الدمعَ ويشكو الخسارةَ حينما يخسر! ارتفعت أسعارُ مُدخلاتِ الطِّباعة عالميًّا، لكنَّ التسعيرَ أيضًا لم يعُد محليًّا. كثيرٌ من دُور النَّشر لا يقلُّ أدنى أسعارها عن 5 دولارات للكتاب، ويصلُ بعضُها إلى عشرةٍ أو خمس عشرة دولار. وكلُّها تقريبًا تغيبُ عن الأدوار الثقافيَّةِ وعن المسؤولية الاجتماعيَّة داخلَ الثقافة أو خارجها. عقودٌ ظالمةٌ للكُتَّاب وانتزاعٌ لنسبةٍ من الجوائز، عمالةٌ قليلةٌ وزهيدةُ الأَجْر، ونفقاتٌ فى حدِّها الأدنى، وتسويةٌ للأوراقِ وتهرُّب من الضرائب والدمغات ورسومِ اتِّحاد الكُتَّاب وغيرها. لدينا أكثرُ من 1000 دارِ نَشرٍ، منها خمسٌ أو سِتٌّ تحتكر أغلب السوق المصرية داخليًّا وخارجيًّا، والبقيَّةُ تُمارسُ تجارةً بذيئةً ومُشوَّهةً، وتستكملُ تجارتَها بالبُكاء وادِّعاء المظلوميَّة. ووسط غابة الناشرين بكلِّ سوءاتِهم يُطحَن آلافُ الكُتَّاب والحالمين بمساحةٍ تحت الأحبارِ وماكينات الطباعة!
قبل أسابيع بدأ زميلٌ حملةً على ناشرين ينتمون لجماعة الإخوان. تواطأ كثيرون من تُجَّار النَّشرِ والمُستفيدين منهم عليه، وتعرَّض الشابُ لهجمةٍ مسعورةٍ من قنوات الجماعة بالخارج، وذيولها وتابعيها فى الداخل. لا تختلف الحالة فى مشهدٍ بطله صحفىٌّ اسمه سامح فايز عن الحالة العامَّة لسوق النَّشر. كثيرون يعملون بالمجال من أجل أيديولوجيا وتوجُّهاتٍ لا يهمّها المال، ويُنفقون بسخاءٍ لاختراقِ الساحة والعقول، وآخرون يرهنون الثقافة لحسابات الرِّبح أو ذائقة المُموِّلين والرُّعاة الإقليميِّين. أصبحنا بلد المليون كاتب، وقد لا يكون هذا فى حدِّ ذاتِه سيئًا، لكن بين أنياب ناشرِين تُجَّار، وفى غيبةِ نقدٍ واعٍ، ومع جمهورٍ يُساق من مافيا احترافيَّةٍ تتلاعبُ به، تتداخل الأمورُ ويصعب الفرز، ويسقطُ الحقيقىُّ على مذابح المُدَّعين. يبدو المشهد كما لو كان الكُتَّابُ والمطبعجيَّةُ وبائعو الكُتُبِ وقُرَّاؤها يعيشون أوهامًا مُركَّبةً، يتشاركونها برضا ويُنافحون عنها بيقينٍ وإخلاص. ربَّما تفرزُ السوقُ الغثَّ من السمين وتقوِّمُ نفسَها مُستقبلاً، لكن إلى هذا الأوان على الجميع معرفة أنَّهم يعيشون وهمًا صنعوه بأيديهم، وأنَّ بَيعَ عشرِ طبعاتٍ أو عشرين أو مئةٍ لا تتجاوز جميعًا عدَّة آلاف، لا يصنعُ رواجًا حقيقيًّا، ولا يخلقُ نجومًا، ولا يدفعُ الثقافةَ وصَنعةَ النَّشرِ إلى الأمام فعلاً. تُجَّار يكسبون، وشبابٌ يُستنزَفون، وأصدقاءٌ يُجامِلون، وقُرَّاءٌ يتلقَّون كما لو كانوا يُمارسون مهمَّةً بيولوجيَّةً عابرة، وبينهم تضيعُ مواهبُ ومشاريع، شابت رُؤوسُ أغلبِهم وما يزالون محبوسين فى دائرة الوهم!