أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين

إدارة الفقر.. كن فقيرا حتى يحبك العالم!

الخميس، 13 يناير 2022 05:21 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لم يكن فقرًا. الواقع الذى عاشه الأكاديمى الطموح فى قريته وما حولها يتجاوز الفقر. وجد الرجل جموعًا لا يتوفَّر لها الحدُّ الأدنى من المعيشة، ولا فرص الدخل، ولا آفاق التحسُّن والتمكين. رجال عاجزون، ونساء يقترضن سنتات ودولارات معدودة بفوائد يومية وأسبوعية قاسية. غياب للخدمات وانعدام شبه كامل للتعليم والوظائف. مبادرة فردية واحدة كانت كفيلةً بإلقاء حَجَرٍ فى بِرْكةِ بنجلاديش الآسنة، تطوَّرت إلى مُؤسَّسة ائتمانية عملاقة، وشراكات محلية ودولية مُهمَّة، ورؤية حكومية شاملة لمُعالجة الاختلالات الهيكلية العميقة فى جسد البلد وآليات الإنتاج وردّ المنافع. أنجزت تلك النظرة الحالمة تحوُّلاً جذريًّا عميقًا، قلَّص الفقر من نحو 50% قبل ثلاثة عقود إلى ما دون 15% حاليا، مع ناتج إجمالى يُقارب 350 مليار دولار بأكثر من 5 آلاف دولار للفرد، وبطالة بأقل من 4%، وتراجع للإنجاب من 6.2 طفل لكل سيدة إلى أقل من 3 أطفال، مع تمكين أكبر للمعيلات، وتغطية تعليمية تتجاوز 90% للمرحلة الابتدائية وأكثر من 60% للثانوية، وتوقُّعات محليَّة بتجاوز الفقر تمامًا بحلول العام 2030.

حصل محمد يونس على جائزة نوبل للسلام فى 2006 مُناصفةً مع مشروعه "جرامين بنك"، أو بنك القرية حسب ترجمته الحرفية وبنك الفقراء وفق شهرته العالمية. قبلها جائزة غاندى للسلام فى 2000، لكن أهم من الجوائز والإشادة ما أحدثه من تغيير داخل بنجلاديش، وفى دولٍ مُجاورة مثل ماليزيا ونيبال وفيتنام والهند والفلبين. أكثر من 2500 فرع و26 ألف موظف، وقروض بمليارات الدولارات استفاد منها عشرات الملايين، وانتشلت أكثر من 20 مليونًا من الفقر خلال عقدين داخل بنجلاديش وحدها. رغم بعض الاتفاقات والتعاون مع مُؤسَّسات دولية، وحزمة بنحو 24 مليار دولار من مجموعة البنك الدولى، فإن الأثر الأكبر فى الحالة البنغالية يظلُّ من نصيب "يونس" ثم رؤية حكومة "دكا" وبرامج عملها. لم يكن العالم حليفًا على قدر الواجب والاحتياج، بل إن المُساندة المحدودة أخذت فى الانحسار بعد كل نجاح. تلك النقطة تُمثِّل جوهر الأزمة. كيف تنظر المُؤسَّسات الأُمميَّة والدول الكبرى إلى مسألة التنمية؟ وكيف تُقيِّم مستويات الفقر وتضع خطط التعامل معه؟ والأخطر وما يحق التوقف أمامه: هل يُحبّ العالم الفقرَ ويشجِّعُ عليه؟!

ربما يبدو السؤال صادمًا وغريبًا، أو فيه قدر من المُبالغة والتزيُّد، لكن الوقائع تسمح على الأقل بطرحه والتداول بشأنه. رغم كل الرسائل الصافية وما تحمله من شعارات مُحبَّبةٍ للنفس، تسير القافلة الدولية فى اتجاه قد لا يُفضى إلى تقويض الفقر أو يُعزِّز جهود السيطرة عليه. الدول الكبرى قادرة على تغطية أزماتها باستحلاب فوائض القيمة من الآخرين، أو تمويل احتياجاتها بائتمان غير مُكلِّفٍ على الإطلاق. أما الفقراء يصعبُ عليهم الوصول إلى تلك الأموال الرخيصة. صحيح أن هناك فُرصًا للمُساندة من خلال المنح وبرامج المساعدات النوعية والمشروطة، وقروض المُؤسَّسات الدولية التى تبدو قليلة التكلفة على غير الحقيقة، لكنهم بطبيعة الحال يواجهون متاعب وإعراضًا من المُستثمرين فى السندات وأدوات الدَّين الحكومى. الأصعب أن تلك الدول ما إن تتحرك إلى الأمام، وتنتشل نفسها من حُفرة الفقر العميقة، تفقد المزايا الضئيلة التى يُكافئ بها العالم عجزَها وقلَّةَ حِيلتها. تبرز محنة الانتقال من الشُّحّ إلى السيولة النسبية، ومن الفقر إلى السَّتْر والدخل المُتوسِّط. تقلُّ المُساندة الدولية، وترتفع كُلفة الاقتراض، وتتوحَّش المُنافسة فى سوق السندات. ربما لهذا تُحقِّق بعض الدول طفرات مُلفِتةً فى مرحلة الفقر، ثم تتوقَّف أو يتقزَّم نُموُّها بعدما تملك بعضًا من أدوات التنمية وإمكانية الحياة ذاتيًّا.

نظرة المراكز الاقتصادية والمُؤسَّسات المالية لفكرة الفقر تبدو مُنحازةً ومُوجَّهة. كأنها تسعى إلى إبقاء الفقراء داخل دائرة - مهما اتَّسع قُطرُها - لا يُمكن الخروج منها. نحو 75% من دول العالم تقع فى تلك المنطقة المتوسِّطة، وتحتضن قرابة 60% من فقراء الأرض، لكنها تفقد مظلَّة الحماية وكثيرًا من فُرص المُساعدة، لأنَّ واضعى تعريفات الفقر ومُخطِّطى برامج الدعم الدولية اعتبروها خارج نطاق الحاجة، وقادرةً على إعالة نفسها وفُقرائها من دون مزايا أو تسهيلات. للأسف يُثبت الواقع خطأ تلك النظرة، وحاجتنا إلى إعادة تحرير الصورة ووضع تعريفات مُغايرة، وتخطيط نظام اقتصادى ومالى جديد لا يحرم هذه الدول من استمرار المُساندة، ولا يفطمها قبل موعد الفطام الصحيح، حتى لا تظلَّ تلك البرامجُ محدودةً فى أثرها ومجال فِعلها ومستويات التأثير زمنيًّا وجغرافيًّا، ولا تكون حصيلتُها النهائية التشجيعَ على استمرار الفقر، أو تعطيل الخروج منه، على عكس كلِّ ما تُعلنه من مُستهدفات مرحليَّة وغايات نهائيّة.

هذه الفكرة كانت حاضرةً بوضوح خلال منتدى شباب العالم، فى تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسى باليوم الثانى للمنتدى عن كُلفة الائتمان المُرهقة للدول الفقيرة، وفى محاور ومناقشات جلسة شركاء التنمية الدوليين باليوم الثالث، وما تضمَّنته من أفكار عملية بشأن أنجع السُّبل لمُساندة الدول النامية، وفتح آفاقٍ أكثر رحابةً لا تقود إلى التنمية فقط، وإنما تعمل بجدٍّ وإخلاص من أجل الاستدامة وتمكين الأسواق الصغيرة، والأفراد أيضًا، من امتلاك أدوات حقيقيّةٍ لتحفيز النموِّ، والوصول إلى تراكمٍ يضمن العبور بالدول من احتياج "العالة" إلى "قُدرة الإعالة". لا يُمكن إنكار أن شركاء التنمية لعبوا أدوارًا حيويّةً فى ترقية الأسواق الناشئة، وكثير من الدول استفادت فعلاً من تلك البرامج النوعية، لكنَّ اتِّصال الفائدة ظلَّ مرهونًا بامتلاك الحكومات الوطنية رؤى وأفكارًا مُتقدِّمةً لتوظيف المُساندات الطارئة والاستثنائية من أجل خلق قُدرات إنتاجٍ ونموٍّ ذاتيَّة مُستقرَّة. دولٌ أخرى لم تتمكَّن من ذلك، أو لم تمتلك الفرصة ولم تُساعدها ظروفُها المحلية الصعبة وما تُغلِّفُها من مُعوِّقات دولية، ظلَّت خارج مدار التطوير والانتقال من حاضنة الدعم إلى مدار القُدرة والفعل. مهما كانت الأسباب، لا يصحُّ أن يُترَك كلُّ هؤلاء الملايين عُراةً من الحماية اللازمة، أو مكشوفين للظروف والتقلُّبات العالمية دون مظلَّةٍ أو تدابير خاصة، تُراعى المُتطلّبات الضروريّة واستثنائية الظرف الراهن، لا سيَّما أن جانبًا من هذه الظروف تُسأل عنه دولٌ ومُؤسَّسات كبرى، ولا يقع فى نطاق مسؤولية الفقراء إطلاقًا.

ربما لا يكون المشهد فى جوهره على كل تلك القتامة، وتكون النوايا صافيةً فعلاً بلا شوائب من قصورٍ أو استغلال؛ لكن المُحصِّلة التى نقف إزاءها ونُقيِّم الوضع فى إطارها تستدعى المُراجعة. الدول النامية أكثرُ تضرُّرًا، ولا تجد مساندة حقيقية، كما لا تتمتَّع بمزايا الأغنياء. والفقراء يُحبُّهم العالم - على الأقل بالشعارات والرسائل الإنسانية والمُساندة المحدودة - طالما ظلُّوا فقراء، لكنهم ريثما يعملون وتتحسُّن أحوالهم نسبيًّا يذوب كل هذا الحب. الصورة بوضعها الحالى تحمل رسائل سلبية للغاية، قد لا تستهدفها المُؤسَّسات والدول الكبرى، لكن المحتاجين ربّما يقرأونها هكذا: عليك أن تظلَّ فقيرًا حتى أدعمك؛ لأنك لن تصبح غنيًّا أبدًا، وما إن تتحسَّن ظروفُ فقرك وتنفكُّ ضغوطُه ستفقد الدعم. المُؤكَّد أنهم لا يقصدون هذا؛ لذا عليهم أن يُعيدوا النظر فى رؤاهم ووسائل عملهم، وأن يضعوا تعريفًا جديدًا أكثر موضوعيَّةً للفقر والتعافى منه، وأدواتٍ مُبتكرةً للمُساندة لا ينتهى دورها بالخروج من الحُفرة، وإنما بالوصول بهؤلاء الخارجين إلى قمَّة التَّلّ.

لن يكون العالم عادلاً وفق نسق طوباوىٍّ كامل. الكمال لله والعدل القحُّ لن يُدركه البشر؛ لكن المطلوب أن تكون المنظومة الدولية أكثر إنصافًا وأقلَّ انحرافًا. فى تجربة بنجلاديش اضطلع محمد يونس وبنكُه وحكومةُ البلد ببرنامج عملٍ شامل، بدأ بالقروض الصغيرة والإنتاج الفردى، وامتدَّ لتحسين الزراعة والرى والبنية التحتية وشبكة الطرق، ثم التمكين من الخدمات وتوظيف الحصيلة فى تغيير المفاهيم، سعيًا إلى هيكلة المجتمع وترشيد الإنجاب وكبح التسرُّب من التعليم واستدامة قدرات النموِّ. دولٌ أخرى انتهجت مسارًا شبيهًا، والانتقال نفسه يحدث فى مصر حاليًا. لكن أضعاف العابرين - من دولٍ وأفراد - ما يزالون قابعين فى أماكنهم، إمَّا لأن الأفكارَ الطليعيَّة والدعمَ الدولىَّ الأوَّل لم يتوفَّرا كما فى حالتى بنجلاديش ومصر وغيرهما، أو لأن الظروف وتقلُّبات السياسة ونزاعات السلطة لم تساعدهم على ابتكار وصفة وطنية للتنمية والاستدامة. العالم مُطالَبٌ بالتدخُّل والوقوف إلى جوارهم بدرجة أكبر ممَّا عليه الحال؛ لأن الفقر مُشكلة عامة نتشارك آثارَها جميعًا، حتى من يعيشون فى دولِ الوَفْرَة.

التفت صندوقُ النقد الدولىّ إلى المسألة جزئيًّا، عبر آليَّة حقوق السحب الخاصة وما توفِّره من مُساندةٍ للدول مُتوسِّطة الدخل، لكن ما يزالُ الأثرُ مُقيَّدًا جغرافيًّا وينقصه الشمولُ والتمدُّد وفق أهدافٍ أُمميَّة عامة. يتطلَّب الأمرُ تحرُّكًا أوسعَ من المُؤسَّسات الأخرى والدول الكبرى، ومسارًا جادًّا من خلال أفكارٍ ومشروعات وبرامج عملٍ مُشتركة، تتجاوز فكرة الائتمان إلى خططٍ تنمويَّةٍ مُتكاملة، ومزايا تفضيلية، وتسهيلاتٍ واسعة فى الاستثمار والتجارة ونفاذ السلع والخدمات. الرئيس السيسى أشار فى كلمته إلى أهمية الالتفات لمسألة التنمية خارج جغرافيا الدول، وفى مستويات إقليمية وقارّيَّة. ربما يخدم أفريقيا مثلاً أن تتكامل وفق خريطة مشروعات وبنية أساسية ومناطق خاصّة ونوعيَّة، وأن يتَّسع المجال إلى ربطها بمُحيطها والعالم ربطًا عضويًّا مُستدامًا. قصور البنية التحتية والخدمات ووسائل النقل والاتِّصال يعوق التنمية، والإنجاز موضعيًّا لا يصنع فارقًا عامًّا يحتاجه العالم بكامله. الأغنياء ربما يكونون مسؤولين عن أنفسهم ويُحسنون ذلك بجدارةٍ وإتقان، لكن الفقراء مسؤولية الجميع. بدءًا من الفقر المُدقع الذى لا يمكن لأصحابه البقاء من دون عونٍ مُباشرٍ وعاجل، مرورًا بالمناطق الرمادية التى تستلزمُ دفعًا مُكثَّفًا للرُّسِوِّ على شاطئٍ واضح، ووصولاً إلى فقر التكامل والعمل المشترك من أجل منفعة الجميع.

ما لم نُصحِّح المفاهيم على وجهٍ خالصٍ من تحكُّم المُتغوِّلين والمُستبدِّين باقتصاد العالم، ونبتكر برنامجًا للتعافى، ينضبط بأهدافٍ وخططٍ زمنيَّة وفق الموارد والقُدرات وتحدِّيات الواقع، سيظلُّ المشهد مُركَّبًا ومُربكًا وحاملاً لمُثيرات الخطر. الفقر ماكينة إنتاجٍ للجهل والمرض والتطرُّف والنزاعات والإحَن الدولية والهجرة غير الشرعية، وما من دولةٍ لم تتكبَّد خسائر - مُباشرة أو غير مُباشرة - بسبب الفقر أو نواتجه. إمَّا أن نعمل معًا بصورة أكثر وعيًا وشمولاً، بعيدًا عن تحميل الفاتورة للفقراء وحدهم، وفطامهم قبل أوان الفطام، أو أن ندفع التكلفة معًا. الدول الكبرى والمُؤسَّسات الأُمميَّة عليها مسؤولية تطوير الرؤى وتعديل المفاهيم وابتكار مسارات الخروج من الأزمة، وكل هذا ضرورة وجود، تحتاجها الدول الفقيرة والنامية ومن ورائها ملايين المُتضرِّرين من تلك السياسات الدولية المُتعسِّفة، احتياجَ البقاء على قيد الحاضر والأملِ فى اعتدال المستقبل، ويحتاجها العالم نفسه؛ حتى تستمر مشروعية المنظومة، ولا تقوِّضُ نفسَها من داخلها.









الموضوعات المتعلقة


مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة