حراكٌ واسع أحدثه مُنتدى شباب العالم منذ انطلاقه قبل خمس سنوات. بدأ الأمر بخطوة طموح للتواصل مع شباب مصر عبر حزمة مُؤتمرات وطنية، تضمَّنت حلمًا بالتوسُّع إلى ما يتجاوز قيود الجغرافيا واللغة. انعقدت دورة المنتدى الأولى 2017، والآن يتجهَّز لرابع دوراته بينما أصبح كرنفالاً محليًّا، ورقمًا لامعًا فى الأجندة الدولية. ورغم إسهامه البارز وما فتحه من مسارات اتّصال وتفاعل حيوية، يظلّ الأمر مُبشِّرًا بمزيدٍ من العطايا، وقابلاً للتمدُّد فى اتجاهات أخرى لا تقل أهمية؛ من أجل الاستفادة من تلك المنظومة الناجحة وما كوّنته من خبرات، ودفع العمل الشبابى إلى حدود وآفاق أبعد وأعمق أثرًا.
قبل نحو عقدين حضرت واحدة من دورات أُسبوع شباب الجامعات. قضينا ستة أيام كاملة فى لقاءات ونقاشات ومُنافسات داخل أسوار جامعة أسيوط. وعلى كثرة ما جرَّبت لاحقًا من مُلتقيات ومهرجانات وندوات وأنشطة رسمية وأهلية، تركت تلك التجربة أثرًا حقيقيًّا فى نفسى، وإسهامًا أحسبه غير قليل فى نظرتى للحياة والناس. شاب فى مُفتتح العُمر يقضى فترة جيدة زمنيًّا مع زملاء من كل الجامعات والمُحافظات، خسر من خسر فى المُسابقات وجوائزها، لكننا عُدنا جميعًا فائزين باللقاء والتفاعل، باختبار أفكارنا فى الآخرين، وامتحان عقولنا وأرواحنا بهم. باستكشاف مساحة أوسع من حدود جامعاتنا وبيئاتنا ودوائر معارفنا الضيقة، وخوض أول تجربة عملية لاستيعاب الآخر - وإن كان جارا قريب الشبه بنا - بل والوقوع عمليًّا على حقيقة أن هناك آخرين غيرنا فى الوعى والروح والثقافة والعادات والطقوس والميول والتطلُّعات.
انعقدت اثنتا عشرة دورة لأسبوع شباب الجامعات منذ عودته، وتأجلت دورة سوهاج 2021 بسبب جائحة كورونا. وانبثقت فعاليات أخرى عن الأسبوع: أسبوع فتيات الجامعات الذى انعقدت منه خمس دورات، وأسبوع شباب المدن الجامعية ثلاث دورات، وأسبوع مُتحدِّى الإعاقة دورتان، وأسابيع الجامعات المصرية وأعضاء هيئات التدريس والعاملين والجامعات الأفريقية ومُلتقى الجامعات والكليات العسكرية والشُّرَطيّة بواقع دورة لكلٍّ منها. هذا النشاط التاريخى للفعالية، والحراك الناتج عنها فى صورة أنشطة ومُلتقيات أخرى، يُعزِّز من أهمية مسار اللقاء والتفاعل بين شباب الجامعات، ويفرض انتهاج رؤية ديناميكية شاملة لتطوير تلك الفعاليات، وإكسابها قُدرات اتصالية وتنظيمية أكبر، بما يرفع كفاءتها ويُضاعف مُخرجاتها، ويصبُّ أيضًا فى نهر العمل الشبابى على تنوّعه، وفى القلب منه منتدى شباب العالم وما ينبثق عنه من حلقات ودوائر عمل، تدفع كلها فى اتجاه مزيد من تمكين الشباب واستحضارهم لمتن المشهد الوطنى العام.
تجربة أسابيع الجامعات تُشبه مُنتديات الشباب بالفعل، فى بدايتها وفلسفتها. انطلق الأمر عام 1954 بإيمان من الدولة وقتها بأهمية الشباب، وسعىٍ لابتكار قناة اتصال عضوية بهم، تمتدُّ إلى لعب دور فى توطيد الروابط الخارجية، على أرضية انحياز مصر القومى العروبى إبان تلك الفترة. افتتح جمال عبد الناصر دورته الأولى بجامعة القاهرة، ثم الثانية بعدها بعامين، ثم عين شمس مطلع الستينيات، وأخيرًا جامعة دمشق. توقَّف الأسبوع سنوات لتُعيد جامعة قناة السويس إحياءه من الصفر عام 1987، ثم جامعة القاهرة بدورته الثانية 1991، وجامعة الزقازيق 1996، والقاهرة من جديد 1999؛ لينتظم من دورته الخامسة كل عامين: 2001 بالمنيا، و2003 أسيوط، و2005 المنصورة، و2007 المنوفية، و2009 المنصورة، ليتوقَّف من جديد بسبب ثورة يناير 2011 وما تلاها من أحداث. ثم عاد عام 2015 بالأسبوع العاشر الذى استضافته جامعة قناة السويس، بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسى، فى أول إشارة مُباشرة إلى اهتمام القيادة السياسية الجديدة بالشباب، وتطلُّعها إلى التواصل الحى معهم بكفاءة وفاعلية، وهو الأسبوع الذى كان نواةً لحالة النشاط والنموِّ الواسعة للغاية فى ملف الشباب وتصدُّرهم للواجهة.
حضر الرئيس جلسة حوار شبابية بالأسبوع، بعدها بساعات أصدر قرارًا بإطلاق البرنامج الرئاسى لتأهيل الشباب للقيادة، ثم بعد عامين أُنشئت الأكاديمية الوطنية لتدريب وتأهيل الشباب. بينهما انطلقت المؤتمرات الوطنية للشباب من شرم الشيخ 2016، تبعتها سبعة مؤتمرات دورية بالقاهرة وأسوان والإسماعيلية والإسكندرية والعاصمة الإدارية، كان آخرها يوليو 2019 قبل شهور من بدء جائحة كورونا عالميًّا. من تلك المُؤتمرات جاء منتدى شباب العالم، ومنه منتدى الشباب العربى الأفريقى الذى احتضنت أسوان دورته الأولى مارس 2019. الآن تتعثَّر أسابيع الجامعات ويخفت دورها، بينما يشتدُّ عُود منتدى الشباب ويُرسّخ نجاحه. ربما لا تكون آليات الجامعات وأسابيعها مُناسبة لطبيعة الشباب واحتياجاتهم الراهنة، أو أن المؤسَّسية والإدارة العلمية المُحكَمة لعبت الدور الأكبر فى هيكلة المنتدى وتعميق أدواره ومردوده محليًّا وخارجيًّا. المهم أن لدينا دائرتين مهمومَتين بالمسألة نفسها، إحداهما تتآكل والأخرى تنمو وتُراكم المعرفة والخبرات، ويُمكن أن نستفيد مما أحرزته من حضور وقُدرة وتأثير فى تطوير المُتعطّل والقاصر؛ حال فتحنا بابًا بينهما.
لا شكَّ فى أننا نعيش عصر الشباب، ونشهد بناء جمهورية شابة فى أفكارها ومؤسَّساتها وآليات عملها. فى غضون سبع سنوات أُعيد تحرير ملف الشباب على وجه أكثر ثراء، وشهدنا خطوات جادة فى اتجاه التأهيل والتمكين. لدينا نحو 185 نائبًا شابا بالبرلمان، ومحافظان وثلاثٌ وعشرون من نواب المحافظين، فضلاً عن عدد آخر من نواب الوزراء ومُساعديهم ومُتحدِّثى الوزارات ومُستشاريها. ومئات الكوادر السياسية فى تنسيقية الأحزاب، وآلاف المُتطوّعين فى مُبادرة "حياة كريمة"، وآليّة مُستحدَثة لتعزيز الاندماج والمُشاركة عبر اتحاد شباب الجمهورية الجديدة، الذى أُعلن عنه رسميًّا بحضور الرئيس فى احتفالية إطلاق المُبادرة. كل ذلك وما حقَّقه من نجاح لا يُغنى عن بقية الوسائل والأدوات، إذ تُراهن الدولة بقوة على الشباب بكل أطيافهم وتدرُّجاتهم الاجتماعية والمعرفية، ما يعنى أننا بحاجة إلى استمرار أسابيع شباب الجامعات؛ لكننا نحتاج أيضًا إلى هيكلتها وتطويرها؛ لتكون أكثر كفاءة ولها عوائد ملموسة على الاكتشاف والاحتضان والتأهيل، وصولاً إلى المُشاركة والتمكين. فلماذا لا يكون المنتدى بوابة هذا التطوير؟
مُنتدى شباب العالم ساحة تلاقٍ واسعة، ومنصَّة حوار دولية مُعتمَدة من الأمم المتحدة ومجلسها الاقتصادى والاجتماعى، ومن الاتحاد من أجل المتوسط. ولديه شراكات مع مؤسَّسات إقليمية ودولية عديدة. برنامج الدورة المُرتقب إطلاقها يتضمن فعاليات مُهمّة ومُحفّزة: نحو 30 مشاركًا ومُتحدّثًا من المسؤولين الإقليميين والدوليين، رئيس الحكومة وثمانية من وزرائه. ثلاثة تيمات رئيسية "السلام والإبداع والتنمية" تتفرَّع عنها محاور وورش تحضيرية نوعيَّة، عن ملامح الواقع ما بعد كورونا، وآثار الجائحة فى ضوء أهداف التنمية المستدامة 2030، ومستقبل أفريقيا والتحول الرقمى والأسواق الناشئة والتعليم والرعاية الصحية، وتحديات البيئة والإدارة المائية وأدوار الشركات الناشئة وتجارب مواجهة الفقر، والسلم العالمى وإعمار ما بعد الصراع وبناء عالم آمن للمرأة، إضافة إلى مُحاكاة مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، ومنصات: مسرح شباب العالم، وريادة الأعمال، وقصص الإلهام "Inspired" وساحة الابتكار "freedom". كل تلك العناوين وقوائم المُشاركين تُضاف إلى هيكل عمل مُتطوِّر، وسياسات تنظيمية ووقائية ناضجة، وصيغة رقميّة مُتكاملة لتخطيط وترتيب وبثّ الفعاليات، واستقرار مالى مُستقل عن الدولة والموازنة، ورواج يتأسَّس على "براندينج" جرت صياغته وتسويقه باحترافية عالية، ما تجسَّد بوضوح فى 500 ألف طلب حضور من 196 دولة، وإقبال من الرُّعاة والشركات. هذه التجربة فى الإدارة والتخطيط مُلفتة ومُلهمة، ونحتاج لاستنساخها وضخّها فى شرايين المؤسَّسات والأنشطة المختلفة، لا سيّما الشبابية منها.
لماذا لا يكون المُنتدى حاضنة دائمة للشباب وأنشطتهم، وشريكا راعيا لكل الفعاليات النوعية المهتمة بتلك الفئة؟ بدءًا من أسابيع شباب الجامعات، ونوادى ومهرجانات الطلائع بقصور الثقافة، ومعارض الكتب وورش الرسم والموسيقى، وبرامج ورحلات الشباب والرياضة، وغير ذلك من نطاقات العمل واستهداف الشباب والنشء. الفكرة أن يكون المنتدى - من حيث أنه مؤسَّسة لديها قدرات التفكير والتخطيط والتنظيم والنمذجة - بيت خبرة وشريكًا عضويًّا فى ملف الشباب، يتداخل مع الوزارات والجهات المعنيّة بتلك الفئة، ويضع السياسات والمُستهدَفات، ويُشرف على التنفيذ، ويقيس الجدوى والعوائد. هذا المسار سيقود إلى ضبط الأنشطة ومُخرجاتها، ويجعل المنتدى حلقة التطوُّر فى مسار مُشاركة الشباب، عبر تدرُّجهم داخل الفعاليات وصولاً إلى منصَّته. يُمكن أن يشمل الأمر مجالاً للاشتباك والمنافسة فى أروقة المنتدى، أو على هامش دوراته، ليكون كشَّافًا للمواهب ووسيلة لصقلها وتدعيمها، عبر مسابقات نوعيّة فى الفن والأدب والرياضة والإبداع وحوار الثقافات، تنتهى إلى جوائز أو مشاريع عمل وإنتاج، لتغذى هذه المُخرجات ما يلى الدورة من منصات تابعة أو شريكة، مثل أسابيع الجامعات وغيرها. ما أحدثه المُنتدى حتى الآن كبير ومُهم، وإضافة نوعية مهمة لمسار العمل مع الشباب ومن أجلهم، لكنه يملك من الأفكار والخبرات والإمكانات ما يسمح بقفزات أوسع، بالنظر إلى ما أحدثه فى أربع سنوات وثلاث دورات، وما تحمله دورته الجديدة، وما بات يُمثّله من قيمة لدى شباب مصر، وبين نظرائهم على امتداد العالم. أهلا بالدورة الجديدة، وبالضيوف من كل الدنيا، ومبروك لكل الشباب.