جدلٌ جديدٌ يُثار، أو قديمٌ يتجدَّد، فى مساحةٍ يجهلها العوام ولا تهدأ فيها النُّخَب. يتطلَّع الناسُ دائمًا إلى ما يجعلُ تواصُلَهم سهلاً وناجعًا، وينفقُ المُثقَّفون كثيرًا من طاقتهم فى رياضةٍ ذهنيّةٍ ربَّما يتجاوزها الواقع. هكذا يتلخَّصُ شجارٌ طارئٌ خلال الفترة الأخيرة، بين من يدْعون إلى توسعة استخدام اللغة المصرية المحكيّةِ فى الأدب والكتابة، ومن يرون ذلك خروجًا عن الثقافة واستهدافًا مُمنهجًا ومقصودًا للعربيّة الرسمية. الشارعُ بكامله خارجُ ثنائيّةِ الاستقطاب الخفيفة، القديمةِ المُتكرِّرة؛ لكن هذا لا يمنعُ النظرَ فى الأمر، على الأقل من زاويةِ أنه حوارٌ، وفرصةٌ لإجراء فاعليّة اللغة واختبارها، بوصفها أداةَ اتّصالٍ بالأساس.
منشأُ الاحتدامِ الأخير مع إعلان أحد المُترجمين إصدارَ طبعةٍ جديدة من رواية الغريب لـ"كامو" بالعاميّة المصرية. برز المُعترضون والرافضون كأنَّ الأمرَ جديدٌ، أو أنهم يُنافحون عن قداسة الأدب قبالةَ هراطقةٍ يزدرونه ويُدنِّسون حماه. تراجم أخرى سابقةٌ اعتمدت الأمر، ورواياتٌ وكتبٌ طوال أكثر من قرن، وشعرٌ يمتدُّ إلى أواخر عصر المماليك على الأقل. لم يعترض "كامو" والفرنسيّون، ولم يصدر عن القُرَّاء ما يُشير إلى امتعاضٍ أو عدم قبول.. فما الجديدُ إذن؟ ولماذا ثار الثائرون؟
لقرونٍ خَلَت، يبدو أننا تورَّطنا فى وجهٍ سياسىٍّ للغة، ألبسوه عباءةً مُقدَّسةً ليكونَ أيسر عليه عبور المناطقيَة وقيودِ الجغرافيا والثقافات. جرى الرَّبطُ - بغرضٍ أو حُسن نيَّةٍ - بين العربيّة من حيث كونها لسانًا تواضع عليه نطاقٌ اجتماعىٌّ ومعرفىّ، والقرآن بوصفه قلبَ الاعتقاد الإسلامى وضابطَه الثابت. يرى فريقٌ أن الرَّبطَ المُتعسِّفَ أضرَّ اللغةَ وصادر تداوليَّتَها الحيّةَ لصالح نمطٍ من التصنيم والتقعيد المُعجمىِّ الراسخ، وينظرُ إليه آخرون من ناحيةِ أنه ضمانةٌ لحَجب الانحراف وتقنين الفَهم خارج الزمن. قد لا يكون الرأيان دقيقين بالكُلّيَّة؛ لكن بعيدًا من ذلك، يظلُّ الحكم على لغةٍ معقودًا بقدرتها على إيفاء اشتراطات الاتِّصال، والاضطلاع بوظيفتِها على وجهٍ كُفءٍ وفعَّال. والمدخل إلى ذلك يبدأ من فلسفة اللغة، وتعريفها، ومن أبنيتها المورفولوجيَّة والفونولوجيَّة وعلاقات الدَّوال والمدلولات. ما لم نتّفق على فَهمٍ واضحٍ لماهيَّة اللغة ودورها وحدود صيرورتها، قد لا نخرج من جدل المحكىِّ والرسمىّ، بل من جدليَّاتٍ أُخرى تقع داخلَ كُلِّ لُغة.
تُعرِّفُ العربيّة اللغةَ بأنها أصواتٌ يُعبِّر بها الناسُ عن أغراضهم. تقريبًا لا يختلفُ الآخرون فى التعريف، لكنَّ الجِذرَ لدينا يقعُ فى مساحةٍ تُلامسُ مُفردةَ "لغو". التجاورُ ليس صُدفةً ولا اعتباطًا. رأى العربُ قديمًا أن الإبانةَ خطُّ الفصلِ بين اللغة واللغو، ومن ذلك جاءت الفصاحةُ بوصفها قياسًا لفعلِ الكلامِ لا بِنيتِه. يرى اللسانىُّ البارز فرديناند دى سوسير أن اللغةَ ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ مُنظَّمةٌ، لكنّها انطلقت من إشاراتٍ عشوائيّةٍ ربطت بين الصوتِ المنطوق والصورةِ الذهنيّة. لا معنى لكلمة "قتل" إلا أن تستدعى ذهنُ السامعِ صورةَ القتل كما تَوافقَ عليها أهلُ العربيّة. كان يُمكن أن يحملَ الفعلُ نفسه تسميةً أُخرى، ولو كان للمُفردةِ معنى فى ذاتها لتحدَّث البشرُ جميعًا لُغةً واحدة. هنا تبرزُ مسألةُ الانحراف الدّلالىِّ حاجزًا بين اللغاتِ ولو تقاربتْ أصواتُها. كثيرٌ من الفرنسيَّة يُلامس الإيطاليّة، والأمرُ بنسبةٍ بين الإنجليزيّة والألمانيّة، وتشيك وسلوفاكيا، وكثيرٍ من دول اسكندنافيا، بينما لا يفهمُ بعضُ ألمانِ سويسرا لُغةَ النمساويِّين أو مستوياتٍ أُخرى من الألمانيَّة، ولا نفهمُ نحن مَحكيَّةَ شمال أفريقيا، وغير ذلك من فروقٍ يُمكن تلمُّسُها بين اللغات وداخلَ اللغةِ الواحدة. هنا يُمكن النظرُ إلى اللغةِ من زاويةِ أنها نظامُ إشاراتٍ ينضبطُ وفقَ سياقاتٍ معرفيّةٍ واجتماعيّةٍ وتاريخيّة، ولا يخصمُ منه أن يتقاطعَ مع أنظمةٍ مُجاورةٍ أو يُخاصِم غيرَها.
العاميّةُ المصرية نموذجًا، تتألَّفُ من مداخل لُغويَّة عدَّة، تحملُ ميراثًا ثقافيًّا أبعد من العربيّة، ويحملُها ظهيرٌ اجتماعىٌّ أشدُّ تعقيدًا. بحسب دراساتٍ لُغويّة تحتفظُ العاميّة بنحو 5 آلاف كلمة من القبطيَّة والمصريَّة القديمة، فضلاً عن أكثر من 1500 من ثلاث عشرة لُغة أخرى، وفقَ ما حصرَه عبد الوهاب علوب فى مُعجم الدَّخيل فى العاميَّة المصرية. وإلى ذلك فإنها لا تعرفُ أنظمةَ الإعرابِ العربيّة، ولا تحفلُ كثيرًا بالمُثنَّى، ولديها آليَّةٌ للنَّفى بأداتين سابقةٍ ولاحقةٍ على غرار القبطيَّة والفرنسيّة، كما أنَّ لها صِيغًا مُغايرةً جزئيًّا أو كليًّا فى المُضارعة والاستقبال والاستفهام وأسماء الإشارة والموصول والتذكير والتأنيث وعامل الفاعل وغيرها. بنائيًّا يبرزُ اختلاف آخر، فبينما تُحمَلُ العربيَّة على اللغات التركيبيَّة ولها طبيعةُ "صَهْرٍ" تتجلَّى فى "الأبوفونيا" أو التنغيم الذى يُكسِبُ بِنيةً لُغويَّةً واحدةً دلالاتٍ عدّة، أو الزوائدِ وتعدُّد قوَّتها، كأن يدلَّ ألِفُ المُثنَّى مثلاً على التثنية والرَّفع، تبتعد العاميَّةُ عن ذلك بغياب أثر الأبوفونيا، أو إسقاط النحو واعتماد وحدة القوَّة لزوائدها، كأن تُعبِّر ياء الجمع عن المجموعِ مرفوعًا كان أم منصوبًا. هذا الملمحُ يجعلُ العاميَّة لُغةَ "لَصْقٍ"، فضلاً عن اتِّجاهها نحو التحليل نوعًا ما، بينما تظلُّ العربيَّة الرسميّةُ لُغةَ تركيبٍ عِمادُها الصَّرفُ والاشتقاق.
رغم وحدةِ المنبعِ وتجاورِ المآخذ، ظلَّ العربُ يقولون على أَلسنةِ القبائلِ لُغات. كانوا يلمسون بالتأكيد مساحات التَّقارُب والتّطابُقِ، لكنّهم فهموا فلسفةَ اللغةِ ودورَها على نحوٍ أعمق ممَّا نفهمُ الأمرُ به الآن. استعضنا عن ذلك لاحقًا بتعبير "لهجة" فى مُحاولةٍ تضليليّةٍ لتَعميةِ المفهوم، بينما فى الأصلِ لا يبدو المعنى كذلك. يقول الحديث: "ما أظلَّت الخضراءُ ولا أقَلَّت الغبراءُ من ذى لَهجةٍ أصدق من أبى ذَرّ". كان أبو ذرّ يسير معهم طريقَ العربيّةِ نفسَه، لكن له فيها طريقة أداء. اللهجةُ هى الطريقة لا الطريق. من هذا أن نقول "خطابًا حادَّ اللهجة". هكذا يكون الأداء بتنوُّعه داخلَ العاميَّةِ لهجةً أو لهجات، لكن العاميّة نفسها ليست لهجةً على الصحيح. الأوقعُ أن المصريِّين يتحدَّثون لُغةً مصريّةً تُجاورُ لُغاتٍ أُخرى وتتقاطعُ معها، تأخذُ منها وتُضيف إليها، ولا يعنى هذا الاتِّصالُ أنها جُزءٌ من أجساد الآخرين؛ إلا لو اعتبرت الحَبْلَ السُّرِّى سببًا كافيًا لنفى أن بطنَ الأُمِّ تحملُ إنسانًا كاملَ الخِلْقَةِ والوجود!
خروجًا من منطقةِ المنهجِ والبحث، إلى حيِّزِ الاشتباكِ القائمِ الآن. قد لا يسهلُ إنكارُ أن عديدًا من المواقفِ تتأسَّس على أبعادٍ ومَرامٍ غير ما يبدو منها. كثيرون فى مسألةِ اللغةِ يتورَّطون فى طرحٍ سَلَفىٍّ ينظرُ إلى اللسانِ باعتبارِه قوميَّةً بديلةً للجُغرافيا المُمزَّقة، أو جُنديًّا فى جيشِ الدِّيْنِ أو الثقافة أو العِرْقِ أو الانتماء المُشترَك. هذه النظرةُ على مباعثِها القِيَمِيَّة المفهومةِ والساميةِ لدى مُعتنقيها، لا تخلو للأسفِ من طُفولةٍ وافتعالِ مُبرِّراتٍ ثقيلةٍ لأفكارٍ هشَّة. ليس من وظيفةِ اللغة أن تكون جُغرافيا ناطقيها، ولا رِباطَهم العقائدىَّ، ولا مجالَ تعبيرِهم عن خُصومةٍ سياسيَّةٍ أو شُعورٍ بالمِحنةِ. الأُصوليُّون يعتقدون ذلك لأنّهم لا يستوعبون اللغةَ فى مجالِها الحيوىِّ، كائنًا حيًّا يعيشُ فينا بقدرِ ما نعيشُ به، وهذا ما يجبُ أن يعيه المُثقَّفون وأهلُ اللغة. الانحرافُ باللسانِ من التوصيلِ إلى التجييشِ يجعلُ الثباتَ دِيْنًا والتكلُّسَ دليلَ قوَّة، على غير الحقيقة، فيُصادر حَركيَّةَ المُجتمع أو يُجبره على الازدواجيَّة. هذا بالضبطِ ما يحدثُ مع كثيرٍ من المُثقَّفين والكَتَبة، تُمارسُهم لُغةٌ ويُحبسون أنفُسَهم فى أخرى، يعيشون بالعاميَّةِ ويكتبون بالرسميَّة ثمّ ينتظرون من يضبطُ لهم كتابتَهم، وإذا وضعوا منشورًا على منصَّات التّواصلِ تكتشف فداحةَ الأمر، وإذا تحدَّثوا فى محفلٍ لا تستقيمُ ألسنتُهم جملةً أو جُملتين. العقلُ السلفىُّ ينشغلُ بالمظهر، ويُردِّدُ محفوظاتِه بيَقينٍ وإخلاص، ولا يسألُ نفسَه عن جدارةِ تلك الأسفار بالبقاء، أو جدارتِه بأن يكون حاملاً ومُمثِّلاً لها ونائبًا عنها فى المعارك المُفتعَلة!
خُلاصةٌ - شخصيَّةٌ على الأقل - يُمكن أن نخرجَ بها. العاميَّةُ تملك ما يكفى من الشروط والفاعليَّة لأن تكون لُغةً، وليست فى خُصومةٍ مع العربية الرسميَّة أو غيرها، كما يتصوَّر كهنةُ القداسةِ اللغويَّة المُدَّعاة، وإنما تتفاعلُ مع كلِّ اللغاتِ أخذًا وردًّا فى إطارِ غائيَّةِ اللسان الحقيقيّة، ومن أجل الوصول إلى اتِّصالٍ مُبينٍ وناظمٍ للعلاقات. لِمَنْ يُريدُ أن يكتبَ أو يُترجِمَ أو يقرأ أو يتعبَّدَ بالعاميَّة أن يفعل، ولِمَن يُفضِّلون اللغةَ الرسميَّةَ ويقدرون عليها أن يفعلوا. لا أحدَ منهم بإمكانِه أن يحرِمَ مَسلكًا لُغويًّا من سالكِيه، ولا أن يقضىَ بهَيمَنةِ مَسْلَكٍ أو فنائه. زيادةُ المُعتقِدين فى استقلالِ لُغةٍ أو تبعيَّتها لا تُغيَّر واقعَ الحال. عددُ مُتداولى العاميَّة فى مصر وحدها ربّما يتجاوزُ مجموع مُتداولى العربيَّة الرسميَّة فى العالم بكاملِه، وأقصدُ تداولاً فعليًّا وحيويًّا يعيشُ اللغةَ وبها، ولا يحصرُها فى العقيدةِ أو الكُتُب أو قاعات الدَّرس. ما قدَّمه شُعراءُ العاميَّة المصرية مثلاً يفوقُ ما أنتجه نُظراؤهم المحلِّيون فى العربيَّة كَمًّا وقيمةً وجمالاً وتطوُّرًا ومُساوقةً للواقع واتِّصالاً بالناس. لن تموت العربيَّةُ لأنَّ فريقًا من جُمهورِها المُحتمَلين يُحبّون الحياةَ بلُغةٍ أُخرى، وستعيش العاميَّة وتنمو لأنها تُعبِّر عن معيشةِ الناس وتستجيبُ لاحتياجاتِهم على نحوٍ أكفأ. وقد لا تتوقَّفُ شجارات المُثقَّفين المُشتعلةُ ودائمةُ التأجُّج خارجَ الزمن وسياقات الواقع.
نقطةٌ أخيرة. ربَّما يندهشُ شخصٌ أو يسألُ: لماذا تعتمدُ العربيَّةَ الرسميَّةَ بينما تقفُ فى جانبِ اللغةِ المصريَّة؟ الحقيقةُ أننى لا أُشايعُ لُغةً ولا أُعادى غيرَها، لكنَّنى أُؤمن بحقِّ كلِّ لسانٍ فى الوجودِ قدر ما يملكُ من قُدرةِ الحياة وفَرضِ نفسِه على الواقع. رُبّما اعتمدتُ اللغةَ الرسميَّةَ سعيًا إلى توازنٍ يدفعُ شُبهة الانحياز، أو ردًّا مُسبقًا على اتِّهام ضمنىٍّ ركيكٍ ومُعتادٍ بطلبِ العاميَّةِ عجزًا عن إتيان العربيَّة، أو لعلَّ الأمرَ رغبةٌ فى حوارٍ لا يستبعدُ المُحافظين وسلفِّيى العقلِ واللغة، أو لنقُل إنه احترامُ المُخالِفِ حينما يدخلُ حضرةَ عُبَّادِ المَعاجِم!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة