كل من يتابع الصراع الدائر فى العالم، يطرح تساؤلات عن سيناريوهات متوقعة لهذا الصراع، والذى يلقى بظلاله على الاقتصاد والتجارة والتضخم فى العالم، فيما يبدو أنه أعنف تفاعل منذ عقود، بينما هو أيضا استكمال لحروب ساخنة وباردة لم تتوقف لأكثر من قرن.
فى فبراير الماضى عندما بدأت الحرب فى أوكرانيا كان واضحا أنها أكبر مواجهة بين روسيا والغرب منذ انتهاء الحرب الباردة، ويقترب الصراع من شهره الثامن، ويراهن كل طرف على أن يستسلم الطرف الآخر، يدفع العالم ثمنا باهظا لهذا الصراع، فى صورة أزمة اتخذت سياقا اقتصاديا وتجاريا ألقت بظلالها على الجميع فى الطاقة والغذاء، وفيما يتعلق بالطاقة فإن أوروبا لم تشهد مثل هذا التهديد منذ عام 1973، وتسعى دول أوروبا لإجراءات تخزين وترشيد وهى تقترب من شتاء يضاعف من مخاوف الأوروبيين.
واجهت موسكو العقوبات الغربية بإجراءات مثلت تهديدا مباشرا لإمدادات الطاقة للقارة الأوروبية، مع القمح، وبالتالى فإن العقوبات على قطاع الطاقة فى روسيا التى تدعمها إدارة الرئيس الأمريكى بايدن، لا تضر الاقتصاد الروسى فقط، لكنها تنعكس على أوروبا والعالم، وتعترف الصحف والتعليقات بوجود انقسام بين الولايات المتحدة وأوروبا وأوكرانيا على أهداف الصراع، وبعد سبعة أشهر هناك انقسام متزايد، ويتصاعد غضب الأوروبيين فى الضغط على حكوماتهم لإنهاء الصراع، والخروج من الدائرة الصعبة التى يجدون أنفسهم فيها.
وبالفعل فقد طالبت الاحتجاجات بألا تدفع أوروبا ثمن الصراع، ولهذا شهدت فرنسا وألمانيا والتشيك وإيطاليا، مظاهرات تطالب بإلغاء الإجراءات التقييدية الأحادية ضد روسيا واستيراد النفط والغاز الروسى الأرخص، بل اتهموا الاتحاد الأوروبى بالديكتاتورية لكونه يفرض إجراءات على الدول ولا يمنح الفرصة لحرية التحرك واتخاذ الإجراءات التى تحمى المواطنين، فى العاصمة الألمانية برلين، طالب المشاركون برفع العقوبات ضد روسيا واستيراد موارد طاقة أرخص، وفى باريس قال المتظاهرون إن «ماكرون يمد أوكرانيا بالأسلحة لحرب لا تهمنا»، وفى إيطاليا والنمسا والتشيك، وكل مكان، ازدادت الضغوط على الحكومات، لترفع العقوبات عن روسيا، والحكومات تسعى لاتخاذ إجراءات الترشيد والمواجهة.
وحتى داخل الولايات المتحدة هناك تيار ظهر جليا فى المنتدى الاقتصادى العالمى فى دافوس، يرى خطورة فى استمرار الضغط على روسيا بالشكل الذى قد يدفع لبناء تحالف روسى صينى، ومن هؤلاء هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، الذى حذر مع آخرين من أن استمرار الضغط على روسيا قد يقود لتفجير أكبر وتحالفات أخطر، لكن الرئيس الأوكرانى وتيار داخل الديمقراطيين فى الولايات المتحدة اعتبروا كيسنجر من الماضى، ولكن الانقسام يصل إلى أوروبا نفسها تجاه التعامل مع الغاز والنفط الروسى، وأحجمت بعض دول أوروبا ومنها المجر، عن فرض حظر على إمدادات النفط الروسية وتستمر التفاعلات مع تضاعف تأثيرات الأزمة العالمية، مع توقعات بأن طول أمد الحرب يمكن أن يغير من التحالفات بتحولات المصالح والأخطار.
كل هذه التحركات تعيد التأكيد بأن الصراع يتجاوز حرب أحلاف عسكرية إلى صراع نفوذ يعيد ترتيب الأوراق والمصالح الاقتصادية، حيث تواجه الولايات المتحدة مقاومة من منظمات الطاقة ومنها أوبك بلس، تجاه مطالب زيادة إنتاج النفط، فى إشارة إلى أن الدول النفطية ترفض دفع ثمن حرب لم يكن أغلبها أطراف فيها، ونفس الأمر فيما يتعلق بالغاز، والذى يمثل ورقة مهمة فى ملف الطاقة العالمى، حيث يعاد رسم التحركات والتحالفات، والتى بدأت قبل سنوات، وهناك دول انتبهت إلى هذه الملفات مبكرا.
كل هذه التداعيات تشير إلى تشابك كبير، سوف يقود إلى إعادة ترتيب نفوذ وعلاقات، وهو ما كان متوقعا منذ البداية، لكنه يبدو تفاعلا ساخنا، ضمن إعادة وضع قواعد نظام عالمى ظل يتشكل طوال ثلاثة عقود، سوف يسفر عن تحولات فى القوة والنفوذ السياسى والاقتصادى، وهو صراع لم يتوقف على مدى القرن العشرين اتخذ شكل حروب ساخنة وباردة، لكنه يسفر عن صراع اقتصادى وتجارى، يعيد تشكيل العالم بثمن باهظ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة