ربما كانت المعضلة الرئيسية التي واجهت العمل الأهلي، في مصر، على مدار عقود طويلة من الزمن، تجسدت في غياب الجانب التنظيمي والمؤسسي، فغردت الجمعيات والمنظمات العاملة في هذا الإطار، كل في سربه، دون تناغم أو انسجام، مما ساهم في حالة من العشوائية التي قوضت ثمار تلك الطاقات الكامنة، التي تحملها مثل هذه الجمعيات، والتي فقدت بوصلتها في الكثير من الأحيان، جراء توارى أهدافها الحقيقية لصالح تطلعات أخرى، عبر الانغماس في العمل السياسي تارة، وتحولها عرضة للنهب والسلب والاستغلال تارة أخرى، بل وأصبحت خلال فترات عديدة بمثابة وسيلة للضغط السياسي والدولي على الدولة تارة ثالثة، جراء حالة من التداخل في الأدوار، التي عانت منها تلك المنظمات.
ولعل التداخل في الأدوار، ساهم في حالة من التنافر، بين المواطنين، وقطاع كبير من تلك الجمعيات، في إطار غياب المصداقية، جراء خروج بعضها عن الدور، الذي ينبغي أن تقوم به، والقائم في الأساس على خدمة المجتمع وتقديم المساعدة للمواطنين، وبالتالي انعدمت الثقة، التي من المفترض أن تكون أساسا في العلاقة، وهو ما ساهم في غياب دورها، لسنوات طويلة، بلغت ذروتها مع العقد الماضي، في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الصعبة، جراء حالة الفوضى التي اندلعت في المنطقة بأسرها، إبان ما يسمى بـ"الربيع العربي".
إلا أن الأزمات المتلاحقة، والتي باتت تحمل أبعادا جديدة ومستحدثة، سواء فيما يتعلق بتفشي الأوبئة، وتداعيات الأزمة الأوكرانية، والتي أثرت بشكل مباشر على حياة المواطنين في كافة دول العالم، ربما كانت أحد أهم الدوافع لإحياء العمل الأهلي في مصر، كأحد الأدوات التي يمكن الاعتماد عليها، في العملية التنموية، على اعتبار أن دوره يبقى مهما في دعم ألاف البشر، عبر إعادة ترتيب أولوياته، بحيث يقوم دوره في الأساس على خدمة المجتمع، بعيدا عن أي أهداف أخرى تخرج عن هذا الإطار، من جانب، تزامنا مع إعادة هيكلة الدور، من خلال تحويله من سياسة الدعم المجرد، والمرتبط بأزمات لحظية، إلى المساهمة في عملية تأهيل شاملة، للمواطنين يمكن من خلالها تطوير إمكاناتهم بما يؤهلهم للعمل والاعتماد على أنفسهم، في مواجهة الأزمات التي يمكن أن تواجههم في المستقبل، ناهيك عن القيام بدور في تحقيق الأهداف الجمعية التي تتبناها الدولة المصرية، وعلى رأسها التنمية في إطار مستدام.
وهنا تبدو فلسفة "الجمهورية الجديدة"، في تدشين "التحالف الوطني للعمل الأهلي"، والذي يهدف في الأساس إلى حشد كافة الجمعيات والمنظمات العاملة في هذا المجال، تحت مظلة واحدة، تتبنى خطط ورؤى موحدة، بحيث لا تخرج عن إطار الرؤية المصرية القائمة على تحقيق التنمية الاقتصادية، لتتحول إلى أحد الأدوات التي من شأنها تحقيق الأهداف التنموية، في إطار "دوائر التمكين"، التي شهدت توسعا كبيرا، خلال السنوات الماضية، بهدف إدماج كافة أطراف المعادلة المصرية، في عملية البناء والتنمية القائمة، بدء من المرأة والشباب، مرورا بذوى الهمم، وحتى منظمات المجتمع المدني وكافة الأحزاب السياسية.
وتعد عملية إحياء العمل الأهلي، واستعادة الثقة الشعبية في دوره، بمثابة خطوة مهمة في إطار عملية أوسع من الحشد، تتبناه الدولة المصرية، في الداخل، لاستغلال كافة مواردها لتحقيق اختراق كبير، سواء فيما يتعلق بمجابهة الأزمات الراهنة أو نحو مواصلة عملية التنموية، وهو ما يمثل امتدادا لعملية شراكة متسعة مع كافة الأطراف الأخرى، ناهيك عن كونها جزء لا يتجزأ من سياسة تهدف إلى تفعيل أدوارها، بعدما فقدت مسارها لسنوات طويلة، وهو ما يؤدى في نهاية المطاف إلى توزيع الأدوار والمسؤوليات على نطاق أوسع من شأنه تحقيق أكبر قدر من الأهداف في المرحلة المقبلة، وهو النهج نفسه الذي تتبناه في محيطها الدولي والإقليمي في إطار مساهمتها في حل الأزمات التي تواجه مناطقها الجغرافية.
وهنا يمكننا القول بأن دوائر التمكين التي تتبناها الدولة المصرية في المرحلة الراهنة، متسعة، وقابلة للاتساع، في إطار قدرتها على استيعاب قدر لا محدود من الأطراف الفاعلة، والتي ربما عانت من التهميش أو التجريف لسنوات، عبر مسارين أولهما تفعيل دورها، لتصبح قادرة على مواجهة التحديات، وبالتالي استعادة ثقة المواطنين، بينما يبقى المسار الآخر قائما على تحديد بوصلتها، بحيث تتفادى حالة التداخل في الأدوار، والتي أدت إلى تقويض مصداقيتها لدى المجتمع في السنوات الماضية.