ربما ارتبطت الديمقراطية العالمية بالعديد من المفاهيم، ربما أبرزها مبدأ التعددية الحزبية، وتداول السلطة، على اعتبار أن مثل هذه المفاهيم، تمثل ضمانة، لعدم تمركز السلطة في قبضة فرد أو جماعة إلى الأبد، وبالتالي كان العمل الدولي، قائما طيلة العقود الماضية، على ترسيخ هذه المبادئ، لتتسع جغرافيا نحو العديد من مناطق العالم، إلى الحد الذي استخدمت فيه القوى الدولية المهيمنة، أقصى درجات القوة، لفرضها، على غرار التدخل العسكري، فرديا (من قبل الولايات المتحدة)، أو جماعيا (في صورة تحالفات غربية بقيادة أمريكية) في العديد من مناطق العالم، من أجل تغيير الأنظمة الحاكمة بها، ومن ثم إرساء تلك المبادئ، وهو ما يرجع في جزء منه إلى ارتباطها بالنفوذ الأمريكي، خاصة وأن واشنطن تعد "المنظر" الرئيسي لها، منذ بزوغ نجمها على الساحة العالمية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ولعل الديمقراطية بمفهومها الواسع، تهدف في معناها المجرد، إلى تقويض الاستبدادية، وإنهاء حالة الانفراد بالسلطة، القائمة على حكم الفرد، عبر توسيع دائرتها، في إطار حزبي، يسمح بتحويل حالة "الصراع" إلى منافسة، مما يساهم في إضفاء طابعا سلميا، في عملية انتقال الحكم، بينما تطور الأمور، نحو السلاسة، في دول المعسكر الغربي، وفي القلب منها الولايات المتحدة، في ظل مصداقية العملية الانتخابية، وتوفير المناخ السياسي الذي لا يسمح بالإقصاء لأى طرف من أطراف المعادلة السياسية في الداخل، بينما أصبح الاحتفاظ بـ"السلطة" للأبد دربا من الخيال، في إطار الدساتير التي حددت بقاء الرئيس بمدة معينة، لا يجوز له تجاوزها، وهو ما يسمح باحتفاظ المنافسين بفرصتهم في الوصول إلى القيادة، أو العودة مجددا، حال التراجع في أي مرحلة.
إلا أن الأوضاع العالمية ربما تشهد تراجعا كبيرا في المفهوم، على النحو سالف الذكر، في ظل العديد من المعطيات، ربما أبرزها تغير ما يمكننا تسميته بـ"الهوى" الشعبي، لدى الشعوب التي تمتعت بالديمقراطية لعقود، في ظل عجز السلطات الحاكمة في إطارها في التعامل مع الأزمات الطارئة، في الوقت الذى نجحت فيه نماذج، وصمت بـ"الديكتاتورية"، في احتوائها، على غرار أزمة كورونا، في ظل فشل دول أوروبا الغربية، بإمكاناتها الجبارة في تجاوزها، بينما نجحت الصين، لتسبق العالم في العودة للحياة، بعد شهور من التوقف.
تراجع شعبية الديمقراطية الغربية، شهد العديد من المراحل، خلال السنوات القليلة الماضية، ربما بدأت مع انعدام الثقة في الأحزاب التقليدية، وهو ما يبدو في اختيار مرشحي أحزاب تأسست حديثا، على حساب الأخرى المخضرمة في عالم السياسة، وهو ما يبدو في نموذج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والذي صعد إلى السلطة لأول مرة في 2017، من رحم حزب "الجمهورية إلى الأمام"، والذى تأسس قبل أقل من عام من الانتخابات الرئاسية، أو اختيار شخصيات يحملون رؤى سياسية، ربما لا تتوافق مع الأحزاب التي يمثلونها، في الكثير من الأحيان، على غرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذى عرف عنه الهجوم اللاذع على أسلافه، سواء من الجمهوريين أو الديمقراطيين، ناهيك عن مواقفه من قيادات حزبه، ليكون اختياره من قبل الناخبين، قائما على شخصيته المتفردة أكثر منه على أساس حزبي.
جانب آخر من التراجع، في مفاهيم الديمقراطية الغربية، يتجلى، في الاحتجاجات الحاشدة، التي شهدتها عدة دول غربية، للمطالبة بتغيير نظم الحكم، رغم كونها جاءت إلى السلطة عبر صناديق الانتخاب، في إطار ما يسمي بـ"السترات الصفراء"، والتي انتشرت كالنار في الهشيم بين دول أوروبا الغربية من فرنسا إلى هولندا وبلجيكا، لتمتد إلى دول أخرى بالقارة خلال عام 2018، وهو ما يمثل انقلابا كبيرا، على المبادئ التي تشدق بها الغرب، في ظل القدسية التي حظت بها عملية الانتخاب، بل وتجاوزت الأمور مجرد التظاهرات والاحتشاد في الشوارع، إلى محاولة "قلب" نظام الحكم، في ألمانيا قبل أسابيع، من قبل حركة تنتمي إلى اليمين المتطرف.
وهنا شهدت عملية "تداول السلطة" تراجعا من حالة السلاسة التي اتسمت بها لعقود طويلة، نحو قدر من "الخشونة"، والتي تدرجت بين العودة إلى الصراعات التي يشوبها العنف بين أطراف المعادلة السياسية، على غرار المشاهد سالفة الذكر، من جانب، وعمليات الانتقال "المعقد" التي شهدتها العديد من الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي تشهد حالة من الاستقطاب والانقسام الكبير، وغير المسبوق، والذى تجلى في أبهى صوره مع خروج ترامب من البيت الأبيض، إلى حد اقتحام أنصاره للكونجرس، بينما ظهر مجددا، وإن كان بصورة أقل حدة، مع عملية اختيار خليفة نانسي بيلوسي في رئاسة مجلس النواب، جراء فشل التصويت بعد عدة جولات، لأول مرة منذ قرن من الزمان.
فشل مجلس النواب في اختيار رئيسه، بعد عدة جولات من التصويت، يمثل امتدادا ناعما لتغير طبيعة "تداول السلطة"، في معقل الديمقراطية في العالم، من حالة "السلاسة"، إلى "الخشونة"، والتي باتت تتخذ صورا مختلفة، ربما بدأت في أمريكا نفسها، مع اقتحام الكونجرس، قبل عامين في مشهد عنيف غير مسبوق، بينما يتخذ حاليا منحى جديد، وإن كان سياسيا، مع عدم القدرة على التوافق على شخصية سياسية، من حزب الأغلبية الجديد، لقيادة دفة الهيئة التشريعية الأعلى بالبلاد، وهو الأمر الذى كان يتسم بسلاسة كبيرة طيلة المائة عام الماضية، حيث لم تتجاوز عمليه اختياره، خلالها أكثر من جولة واحدة.
وهنا يمكننا القول بأن مفهوم الديمقراطية، بات يحمل تغييرا كبيرا في السنوات الماضية، في ظل حالة من التمرد الشعبي، ساهمت في تحوله من أداة من شأنها "وأد" الصراعات، لتضفي عليه طبيعة أكثر "خشونة"، لتتواكب مع طبيعة الحقبة الدولية الراهنة، ما تشهده من أزمات، وهو ما يتطلب إضفاء قدر من المرونة على المفاهيم النمطية، حتى يمكنها تجاوز التحديات التي تواجه العالم، مع امتداداتها الجغرافية والزمنية، وحالة اللامحدودية التي باتت تتسم بها.