ربما كان تحقيق "التوافق"، هو الهدف الأكبر لـ"الجمهورية الجديدة"، وهو ما يعكس إدراكا لأبعاد كانت غائبة عن العقل الجمعي، ترتبط باستحالة تحقيق التطابق الكلي، فيما يتعلق بالرؤى السياسية أو المواقف الدولية، سواء في الداخل المصرى أو على المستوى الدولي، وهو ما يبدو في العديد من الخطوات المتزامنة، منها توسيع دوائر التمكين، لتشمل كافة الفئات المجتمعية، ثم الانطلاق نحو "الحوار الوطني"، الذي يشمل قوى السياسة والمجتمع، للوصول إلى أرضية مشتركة في القضايا القائمة، بينما كان المسار الدبلوماسي على نفس النهج، عبر التحرك نحو تعظيم المصالح المشتركة بين القوى الإقليمية المتنافسة، لتخفيف حدة المنافسة، ومن ثم الوصول إلى حوار إقليمي من شأنه تقديم حلول لقضايا المنطقة، على غرار مؤتمري بغداد اللذين عقدا في العامين الماضيين، ليمثلا معا سابقة مهمة في جلوس القوى المتصارعة معا على مائدة حوار واحدة لمناقشة الوضع في العراق، باعتباره أحد أهم أسباب عدم الاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط.
ولعل تقديم مبدأ التوافق، كبديل عن "تطابق" الرؤى، خلق مفاهيما جديدة، على رأسها "الشراكة"، ليكون بمثابة "إعادة هيكلة" لمفهوم "الدعم"، سواء في علاقة الدولة بالمواطن، عبر تحويله لطرف شريك في مجابهة الأزمات التي تلاحق بلاده، مقابل منحه الفرص التي من شأنها تمكينه وتحسين حياته، وتوفير فرص عمل مناسبة له، في حين صار المفهوم نفسه "البديل الشرعي"، لفكرة التحالفات التقليدية، في العلاقات الدولية، القائمة على تطابق الرؤى والمواقف تجاه كافة القضايا على النطاق الدولي.
ويعد اعتماد مبدأ "التوافق"، ومفهوم "الشراكة"، من قبل الدولة المصرية، لم يقتصر على السياسات، سواء في الداخل أو الخارج، وإنما بات منهجا عاما، ليكون أساسا لعملية "إصلاح" شاملة، وممتدة، تحمل في طياتها تحسين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، عبر مسارين متوازيين، عبر تطبيق التجربة أولا في الداخل المصري ثم تعميمها إقليميا ودوليا، وهو ما يبدو على سبيل المثال في تجربة الحرب على الإرهاب، والتي اعتمدت نهجا توعويا جنب إلى جنب مع المسار الأمني، لتستلهمها عدة دول أخرى، ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط، وإنما في العديد من المناطق الأخرى، على غرار فرنسا، والتي ركزت بصورة كبيرة على تطبيق نفس الرؤية، عبر الحرص الشديد على اختيار الأئمة، والخطباء في المساجد والتوقف عن استيرادهم من الخارج، منعا لنشر الأفكار المتطرفة.
والحديث عن تجربه الحرب على الإرهاب، واعتماد المسار الفكرى، في مجابهة التطرف، لا يبدو مقتصرا على مواجهة الميليشيات المسلحة، وإنما مرتبطا بدعوة، أطلقتها مصر، منذ ميلاد "الجمهورية الجديدة"، تقوم على إصلاح الخطاب الديني، وهي دعوة تحمل في طياتها أبعادا تبدو أشمل وأوسع من مجرد دحض التهديدات، التي تفرضها جماعات الظلام والعنف المسلح، نحو مزيد من التوافق بين أفراد المجتمع، وهو ما يبدو في إشادة الرئيس عبد الفتاح السيسي بكلمات البابا تواضروس الثاني حول إمكانية "توافق" الأديان دون أن تتطابق، وهو ما يعني التركيز على المشتركات، وهي كثيرة للغاية، خاصة وأنها تمثل الأساس للتماسك المجتمعي، خاصة وأن ثمة إجماع بين العقائد الدينية، حول مباديء المحبة والسلام وحب الوطن والخير لجميع الناس، وقيمة العمل والتعاون على البر والتقوى، وغيرها من المعاني السامية والنبيلة، التي يمثل تعميمها أساسا لبناء مجتمع قوي من شأنه تعزيز قوة الدولة، وتحقيق التنمية الاقتصادية.
الرؤية المصرية، القائمة على "توافق" الأديان، ربما تحمل مسارا أخر يتجاوز الداخل المصري، قي ضوء صلاحيتها للتعميم، في دول أخرى تعاني استقطابا طائفيا، ساهم في انغماسها في مستنقع الفوضى لعقود طويلة من الزمن، بينما يبدو في جانب أخر، في إصلاح خطاب دولي أكبر، أدى إلى تأجيج الصراعات الإقليمية، على أساس طائفي، وهو الأمر الذي من شأنه توسيع دائرة الاستقرار، انطلاقا من الداخل، مرورا بالدول الاخرى، وحتى المستوى البيني، في العلاقات بين دول الإقليم.
وهنا تبدو سياسة "الدوائر"، حاكمة إلى حد كبير في الرؤى التي تتبناها الدولة المصرية، سواء فيما يتعلق بالدبلوماسية، والتي اتسعت إلى حد يتجاوز النطاق الإقليمي الضيق، أو التمكين، عبر تفعيل دور كافة الفئات المهمشة، سواء الشباب أو المرأة وحتى "ذوي الهمم"، بينما اعتمدت دائرة الاستقرار، لتصدير رؤيتها أولا في الحرب على الإرهاب، عبر تفعيل المسار الفكري، ثم التحرك نحو تحقيق الاستقرار المجتمعي داخل الدول، عبر تعميم تجاربها المجتمعية، ليتحقق بالتبعية استقرارا إقليميا، عبر تهدئة وتيرة الصراعات، وخاصة تلك التي تحمل أساسا طائفيا، خاصة وأنها مثلت "كابوسا"، للمنطقة بأسرها على مدار عقود طويلة من الزمن.