كانت الساعة الواحدة صباح 30 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1965، حين لفظ الكاتب الشاعر كامل الشناوى أنفاسه الأخيرة فى مستشفى الدكتور عبدالله الكاتب، وكان الكاتبان الصحفيان محمد حسنين هيكل وموسى صبرى، فى زيارته، فبكيا بحرقة، وفقا لتأكيد موسى صبرى فى مذكراته «50 عاما فى قطار الصحافة»، مضيفا: «ما أبشع الموت، كامل الشناوى الذى كان يملأ الدنيا بفنه، مات وحيدا فى ظلام المستشفى، ولم يكن بجواره إلا طالبة شابة، كانت تراه أستاذها وكان يتبنى موهبتها».
فى يوم جنازته «لم يخجل أحد من دموعه»، بوصف الكاتب الصحفى صلاح حافظ، فى تحقيقه «المأساة والبطل» المنشور على سبع صفحات بمجلة «آخر ساعة» عدد 1624، 8 ديسمبر 1965، مضيفا: «لم يبق فى بيته واحد من نجوم الفكر والفن والثقافة، ففى زحام الوجوه كان الكاتب محمد التابعى إلى جانب الموسيقار كمال الطويل، والوزير عبدالقادر حاتم إلى جانب المفكر الدكتور لويس عوض، وكما كانت الدموع تلمع فى عينى محمد حسنين هيكل، كانت كذلك تلمع فى عينى فريد الأطرش، على أن الحشد الصامت المهيب لم يكن كله مشاهير، كان هناك الذين ما زالوا يخطون خطواتهم الأولى فى عالم الثقافة، فى الطريق الصاعد الذى لم يسر فيه أحد طوال الثلاثين عاما الماضية دون أن يمر بكامل الشناوى».
يضيف «حافظ»: «على الجانبين وقفت حشود من الناس، رجال ونساء وطلبة، بعضهم لأنه يريد أن يودع كامل الشناوى، والبعض الآخر لأنه يريد أن يرى كل هذه الوجوه الشهيرة التى تتبعه، ويتساءل ما الذى جمعها هكذا وراءه، أما أصحاب الوجوه الشهيرة أنفسهم فكان يشغل أذهانهم سؤال آخر: هل ضاع حقا من حياتهم كامل الشناوى؟ كان صعبا أن يصدقوا، فهو قد وزع حياته عليهم، وترك فى صدر كل منهم جزءا منه، وما زال ينبض، وعندما وقفوا عند نهاية الموكب يتصافحون ويتبادلون العزاء، كان يبدو أنه ما زال حيا، وأنه هو الذى يقول لهم على اختلاف أعمارهم وآرائهم ومذاهبهم: تصافحوا».
لم يأت هذا الحزن العام من فراغ على فقدان كامل الشناوى المولود بقرية «نوسا البحر» فى 7 ديسمبر 1910، «فكل أعلام الصحافة المصرية حتى يوم رحيله مواهب قدم لها»، وكذلك للعديد فى مجالات الإبداع الأخرى، ومنهم، محمد حسنين هيكل، أحمد بهاء الدين، أنيس منصور، فتحى غانم، سعيد سنبل، كمال الملاخ، وفى دنيا الفن عبدالحليم حافظ، نجاة الصغرة»، وفقا لتأكيد موسى صبرى.
ويذكر الموسيقار محمد عبدالوهاب، فى كتاب «عبدالوهاب أوراقه الخاصة جدا» تقديم الشاعر فاروق جويدة: «أكبر مزايا الصديق كامل الشناوى، أنه كان يملك رادارا إلهيا عجيبا يكتشف به الموهبة وهى فى المهد، ويحتضنها ويصادقها قبل أن يعرفها أحد، لقد أحس بإحسان عبدالقدوس، ومصطفى محمود، قبل أن تحس بهما الناس وصادقهما، وأحس بكمال الطويل وبليغ حمدى قبل أن يعرفهما الناس المعرفة الكاملة»، ويؤكد صلاح حافظ: «من اللحظة التى وصل فيها كامل الشناوى إلى القمة فى العمل الصحفى، صار همه أن يصل إلى القمة كل صاحب موهبة، وكان أنفه على حد تعبير يوسف إدريس «يشم المواهب على مسافة ألف ميل»، كما كان ضميره لا يطيق أن يجعلها تعانى وحدها مشقة الصعود».
وعن عمق تأثيره يذكر موسى صبرى: «كان قادرا على أن يجعل المدينة كلها تتحدث عن مقال لشاب موهوب، قرر أن يشجعه، يكفى أن يجلس إلى التليفون نصف ساعة، لكى يعبر عن إعجابه بالمقال القنبلة للعديد من أصدقائه فى كل المواقع، وفى المقابل يشن حربا عنيفة ضد أدعياء الموهبة والفن، كان كريما بلا حدود، ولا يملك غير مرتبه، ولذلك كان يقترضه لعام قادم، ويقترض من جميع بنوك مصر، وشعاره الضاحك «الدول تقترض، فلماذا لا نقترض».
ارتدى فى شبابه العمامة والجبة والقفطان، بعد أن ألحقه والده «نائب المحكمة الشرعية» بالدراسة فى الأزهر، وكان عمه هو الشيخ محمد مأمون الشناوى شيخ الأزهر الأسبق، لكن «كامل» هجر كل ذلك لينتقل إلى لبس الطربوش وملابس الأفنديات، والالتحاق بالدراسة فى الحقوق، ويذكر مصطفى أمين فى كتابه «شخصيات لا تنسى»: «هرب بجسده الكبير وقفطانه وجلس على قهوة الفن بين كبار الممثلات والنقاد والصحفيين، ثم هجر كل شىء وقرر أن يكون شاعرا، ثم قسم نفسه بين الشعر والصحافة».
«يعتبر آخر ندماء المجالس» بوصف الموسيقار محمد عبدالوهاب، مضيفا: «يذكرنى بندماء العصر العباسى، كان فى المجالس يتجلى ويصهلل، وقول كلمات مرتجلة فى الأدب تعتبر غاية فى الروعة و«يقفش» وينكت ويعلق ويقلد، والذى أسفت عليه أن أحدا لم يفطن إلى أن يضع فى كل مجلس لكامل الشناوى مسجلا ليسجل لنا ما أبدعه فى المجلس، لو حدث هذا لكان عندنا الآن تراث فريد له».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة