لا شىء بسيط فى غابة الظواهر الاجتماعية ودلالاتها المتفاوتة بتعدد السياقات والحالات والانحيازات، وما يُمكن أن يرتكز إليه كل فريق فى الفهم والتحليل.. عناوين مثل مفهوم الفن ودوره وأثره ومعايير نجاحه ما تزال فى حيّز الاشتباك النظرى بعد قرون من التداول فيها، انطلاقًا من نسبية الرؤى الإنسانية دائمًا فى المقام الأول، ثم من أن كل محاولات التصدّى عمليًّا لتقديم أجوبة مُقنعة لتلك التساؤلات تظل اجتهادًا يعرض جانبًا من الرؤى الممكنة، ولا ينفى بقيّة الجوانب، باختصار يظل محكّ الفرز والتقييم واستخلاص النتائج مرهونًا بمعادلة الاتصال بوصفها رهان كل نشاط إنسانى وغايته، وهو بذلك لا يمكن أن يكون عموميًّا مُجرّدًا وصالحًا للإجراء على كل الحالات بتعدُّد مستوياتها الزمنية والمكانية، وإنما هو موضوعى ظرفى يخص كل حالة بعينها، وفق ما تأسّست عليه من منطلقات، وما حصدته من صدى وأهداف.
توزّعت ردود الفعل على قائمة طويلة من الأعمال فى موسم مُحتشد، وتباينت المواقف بطبيعة الحال.. ربما يصعب استخلاص حالة الشارع من دون إحصاءات وقياسات مُدقّقة، لكن إذا اعتبرنا مواقع التواصل الاجتماعى «عيّنة عشوائية» مُمثّلة للقاعدة الشعبية العريضة يمكن أن نضع أيدينا على بعض أنماط التلقّى وردود الفعل، وإن شاب بعضها التبسيط أو التعميم، والملمح الأول أن مساحة العرض المفتوحة على المنصات يسّرت للأغلبية ممارسة نوع من النقد الانطباعى، قد لا يقوم على ركائز حقيقية من المعرفة بالصنعة ونظريات الدراما ومداخل قراءتها، أو مُحدّدات تقييم عناصر الإنتاج فى ذاتها أو فى تكاملها مع بقية المكونات، وهذه الوفرة ليست مشكلة فى ذاتها، لولا أنها قادت لاحقًا إلى حالة فرز واستبعاد وأحكام يقينية مُطلقة، تطوّرت بالتبعية إلى مُصادرة آراء الآخرين أو ممارسة قمع معنوى تجاه أشكال أخرى من الذائقة والتفضيلات!
وفق إيجاز عام، يمكن القول إن دراما رمضان سجّلت مستويات مُشاهدة كثيفة للغاية، على الأقل تابع كل بيت مسلسلا واحدا أو أكثر.. تلك الحالة تعنى أن رهان صُنّاع تلك الأعمال لم يذهب هباء، إذ إن فكرة التنوع وكثافة الإنتاج تقوم فى الأساس على الاستجابة لسياق واسع من الطلب، وتلبية قائمة احتياجات طويلة، ولو كان ميسورًا أن تذهب كعكة الموسم لعمل واحد ما احتجنا إنتاج أعمال أخرى.. فى مقابل هذا التصوّر الناضج لدى القائمين على الصناعة يتطلّب الأمر أريحيّة وقبولاً مُماثلين من المُتلقّين، بمعنى الإيمان بأننا لا نعيش وحدنا فى العالم، ولا تدور الدنيا فى سواقينا الشخصية، وكما يجب أن نجد فنًّا يُعبّر عنّا ويستجيب لشواغلنا، فمن حق الآخرين على تنوّعهم أن يكونوا مُمثَّلين أيضًا فى المعادلة، وتجاهل تلك الحقيقة البسيطة هو ما يُمكن أن يقود البعض للحِدّة وأُحادية المواقف!
فى نطاق مشاهداتى الخاصة، اقتنص «جعفر العمدة» نجاحًا جماهيريًّا ساحقًا بصيغة شعبية ميلودراميّة بسيطة وجذابة، وحقّق «تحت الوصاية» مستوى فنيًّا رفيعًا ومُتكاملًا فى عناصره، بنجاح واسع ومشاهدات قياسيّة لهذا النوع من الإنتاجات الثقيلة والموضوعات الجادة، وبالمثل يمكن قراءة ردود الفعل على مسلسلات: عملة نادرة، سوق الكانتو، الكتيبة 101، حرب، ضرب نار، الكبير أوى، جت سليمة، رسالة الإمام، الصفارة، علاقة مشروعة، حضرة العمدة، ومذكرات زوج وغيرها.. أصاب كل عمل جانبًا من رهانات صُنّاعه وفق طبيعة التجربة وأهدافها، وأصابت القائمة كاملةً غاية الصنعة الفنية فى التسلية والإمتاع والاشتباك مع القضايا وخربشة شواغل الجمهور المُستهدف، وكما لا يجوز قراءة عمل خارج حدود طبيعته ورهانه وما قصده مُنتجوه، لا يجوز أيضًا قراءة الموسم بكامله خارج هذا التكامل، والمروحة الواسعة من المعروض بما اختارته من صيغ بصرية وفى التقنية والأداء وبناء الرسائل وأغراضها الدرامية، سواء انحازت للجديّة أو اختارت التسلية أو خلطت بين الأمرين.
المجتمعات الكبرى ميزتها التنوُّع وتعدُّد الطبقات والشرائح ومستويات التلقّى، والجمهور ليس كتلة واحدة مُصمتة، وإنما طبقات يُلوّنها تفاوت الأوضاع اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا ومعرفيًّا، وبمنطق الثراء وطبيعة النفس البشرية يمكن أن تتقاطع الدوائر، ما يعنى أن شخصًا واحدًا قد يتلقّى ميلودراما «جعفر العمدة» للاستمتاع، ودراما «تحت الوصاية» الواقعية القاتمة للجدية ومُقاربة هموم تتصل بالتشريع وأحوال قطاع من الناس، وفانتازيا «جت سليمة» للبهجة والنوستالجيا واستعادة حكايات الطفولة وأجواء ألف ليلة وليلة، وغيرها من إنتاجات وفق طبيعة كل تجربة، دون أن يكون ذلك عيبًا فى تركيبته أو خصمًا من أهمية تنوّع الأعمال ومستوياتها فى الأفكار والتقنيات والتشخيص.
على هذه القاعدة، يُصبح التعالى ممقوتًا ولا مبرر له، لأنه يُصادر حق آخرين فى أن يجدوا تمثُّلات فنيّة تُعبّر عنهم، وبما أن الشعبية دليل احتياج يبحث عن إشباع، فليس طبيعيًّا أن تطلب من الآخرين التعالى على رغبات الناس، فضلاً عن أن الدراما بما تُحقّقه من إدانة أو تطهير أو تعويض قد تكون أفضل السُّبل لمقاربة القضايا الشائكة، سعيًا إلى الفهم والتوعية والتنوير وتوجيه الطاقات، بينما التعالى مسلكٌ شُمولى وصائى يشطب الآخر، ويختزل القاعدة العريضة فى ذاته، ولا يُمثّل إلا عجزًا عن قراءتها والوصول إليها، رغم أن هذا الاتصال غاية أى نشاط اجتماعى، فى السياسة أو العقيدة أو التربية كما فى الفن.. ليس من مهام الأداءات النخبويّة أن تُدين العوام وتحاكمهم على قاعدة من الأفكار المُعقّمة معمليًّا، وإنما أن تُبسّط طرحها وتبتكر طرقًا ومسارات للفهم، ومن ثمّ يُصبح إنكار الوصفات القادرة على الوصول للجمهور سجنًا تقبع فيه النُّخب ومن يتشبّهون بهم، بدلًا من النزول للناس ومشاركتهم القضايا والشواغل الجادة بقدر ميسور من الفهم، وصياغات لا تخلو من الإمتاع.
ما حقّقه تنوُّع الموسم أنه ضبط إيقاع كل الآلات دفعةً واحدة، وفق فلسفة إنتاج اشتغلت على كل المسارات معًا، بالضبط كما يفعل مايسترو ماهر فى معزوفة كثيفة الخطوط دون أن ينحاز للبيانو أو ينظر للربابة نظرةً مُتدنّية.. والأهم أنه لا يُمكن لعمل واحد أن يُصيب كل غايات التلقى، أو يُشبع الاحتياجات وأنماط الطلب كافةً، ولا أن يكون فاعلاً فى شخصية إنسانية تستند على ركائز اجتماعية وثقافية ومعرفية واعتقادية ومخزون حضارى إلى حدّ إعادة صياغتها كُليًّا، لا سيما أن السياق بات أكثر انكشافا والجمهور على دراية كاملة بلعبة الفن وقادر على الاستمتاع بها دون تعقيد أو تنظير.. الخلاصة، موسم دراما رمضان كان ثريًّا فى معروضه، مُتنوّعًا فى قضاياه ومعالجاته، ناجحًا فى تكامل عناصره ووصوله لكل الفئات، وفعّالاً فى اشتباكه الجاد أو تسليته الخفيفة، وهو بذلك يُقدّم أجوبةً عمليّة تتضافر معًا لابتكار زاوية قراءة مُقنعة «هنا والآن» بشأن مفهوم الفن ودوره وطبيعة الرسالة ومداها، وانسجام كل ذلك مع الواقع المحيط، ويمكن أن تتغيّر الأجوبة لاحقًا إذا أنتج الواقع أسئلةً مُغايرة، لتظل اللعبة عضويّة فى كونها مسرحًا مفتوحًا يتشاركه الصُنّاع والجمهور، بينما أى أسئلة أو أجوبة من خارج حيّز الاتصال الإيجابى، أو من وراء شاشات مواقع التواصل المُتعالية، تظلّ تنظيرًا مُنعزلاً عن واقعه، وافتراضات مُعلّقة لا تلمس الأرض!