حازم حسين

أثر العلانية واختبار الوقت فى لجان الحوار الوطنى

الأحد، 14 مايو 2023 01:06 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بقدر ما يُمثّل الحوار الوطنى فرصة للأحزاب والقوى السياسية، فإن فيه اختبارًا صعبًا، نحن أمام شقّ مسار جديد نحو تكثيف وإثراء المجال العام، لكن كما يُوفّر النور حيّزًا للظهور والالتماع فى عيون القاعدة الجماهيرية، يفرض حالة انكشاف بوسعها إبداء القصور كما تُبدى المزايا. الدولة، من حيث كونها سياقًا عريضًا من المؤسَّسات والتفاعلات والمصالح، أبرز الرابحين من التجربة الناشئة، وعلى القوى السياسية أن تُؤسِّس مُعادلات ربحها على تلك الأرضية، بمعنى ألا يخرج عنها، فى الممارسة العملية، ما قد يُشير إلى تعارض بين المنافع المباشرة والغايات العليا، وأن تُدير حضورها بأقصى استفادة من عناصر المشهد، لا سيما العلانية والوقت.
 
مع التئام جلسات اليوم الأول بثلاث لجانٍ من المحور السياسى، يكون الحوار الوطنى قد بدأ مسيرته الفعلية بعد شهور التنظيم والمداولات والتوافق على الضوابط وأُطر العمل، من المقرر أن يتحدث نحو 120 شخصًا عبر اثنتى عشرة ساعة، تتوزّع على أربعة اجتماعات، طول الوقت وكثافة العمل يفرضان على الجميع أجواء مزدحمة وإيقاعًا مُتسارعًا، لا من أجل تنظيم المساحة المشتركة وخلق توازن بين حق الحديث وواجب الإنصات فقط، لكن حتى يكون المشهد ناضجًا فى تفاصيله، وقادرًا على حمل الرسائل المُرادة منه على وجه صحيح، ليس المحك قبول الحضور فقط لما ستُسفر عنه الجلسات، بل أن تكون الحالة مُقنعة للأعداد الأكبر خارج القاعات. يشبه الأمر بطولة مُوسّعة فى لعبة شعبية، لن يكون شكلها العام جميلاً من دون استمتاع اللاعبين بما يفعلونه داخل الملعب، لكن ارتياح الجمهور ومتعته، وأن يجد نفسه جزءًا أصيلاً من تلك الحالة، أهم ردود الفعل المُبتغاة، وهى ما تضمن الرواج والفاعلية.
 
تُرتّب العلنيّة شروطًا والتزامات لا يمكن تجاهلها، الأولوية لكل فرد بين ملايين أو آلاف يهتمون بالحوار، وقد يستقطعون من وقتهم لمشاهدة جلساته، إذ يجب أن يشعر أى مُتابع أنه حاضر داخل القاعة بأفكاره وشواغله وتساؤلاته، وإن غاب عنها بالجسد والمشاركة المُباشرة، يقتضى ذلك حُسن إدارة الوقت دون تكرار أو استهلاك مُفرط، بما يسمح باستعراض كل الآراء ووجهات النظر، والتداول فيها، واستخلاص أحسنها، دون مُزايدةٍ أو تسفيه أو استعلاء بالأيديولوجيا والمواقف السياسية. الحوار ليس برلمانًا ولا منصّة صراع بين تنظيمات، يمكن أن تتصارع الرؤى لكن على أرضية التداول فى أمور خلافية بحثًا عن حلول موضوعية ناضجة، فالغرض أن يتشارك الجميع سعيًا إلى إحراز هدف لصالح الوطن لا فى مرمى حزب أو تيار، لكن فى الوقت نفسه يتعيّن على المشاركين التعامل كأنهم فى فقاعة مغلقة، بمعنى أن يتركز الاهتمام على القضايا والاقتراحات بعيدًا من الانشغال بمسألة البث، حتى لا ننزلق إلى مستوى من الشعبوية يسوق المُتحدثين على طريقة «ما يطلبه المستمعون»، إذ فضلًا عن أثر ذلك فى تجرّد الطرح ولغة الخطاب، قد يتسرّب إحساس بالتملُّق، يمكن أن يعكس شقاقات القاعة على خريطة المتابعين بالخارج، خالقًا حالة استقطاب تتصادم مع مستهدف الحوار، فضلًا عن أنه ربما يُحدث انفصالًا بين السياسيين والظهير الشعبى، حال فرضت بقية القضايا مسارات نقاش تخلو من العاطفية ودغدغة رغبات الجمهور.
 
الدلالات وراء بثّ الجلسات مدخل مُهم لقراءة المشهد وتقييمه، ربما بدأت الفكرة بمبادرة من الدولة، أو كانت اقتراحًا من الموالاة فى مجلس الأمناء أو طلبًا من المعارضة، المهم أن الجميع توافقوا عليها فى آخر الأمر، وفى هذا الاتفاق إشارات: المعنى من جانب الدولة والقيادة السياسية أن هناك إرادة حقيقية فى إدارة حوار جاد ومفتوح، وأنه لا خطوط حمراء ولا رغبة فى إخفاء أى شىء، وبالنسبة للقوى السياسية فإن العلنيّة قد تكون فرصة سهلة لمخاطبة الشارع، أو ناشئةً عن غرض لدى البعض فى إحراج السلطة التنفيذية، أو محاولة لتحصين قاعات الحوار برقابة شعبية مُباشرة على الأحاديث والاقتراحات. وراء كل واحد من تلك البواعث معانٍ ومآلات يمكن استشرافها، لكن الدلالة تكتمل بالنظر فى لائحة الحوار وما استقر عليه أُمناؤه من ضوابط، أبرزها أنه لا حسم بمنطق التصويت والأغلبية، المسار إما التوافق على حلول مقنعة للجميع، أو رفع كل الاقتراحات للرئيس حتى يُفاضل بينها، تلك القناعة الواضحة من كل المشاركين بالمظلّة الرئاسية تشطب على فرص الشقاق والتنازع، إذ يضمن كل فريق أن تصل أفكاره للقيادة ويرتضى ما ستختاره، وهكذا تصبح العلنيّة مسلكًا غرضه توسيع قاعدة الحوار، وإطلاع كل المواطنين على مُجرياته دون وصاية أو انتقاء، والأهم وصل الأحزاب بالشارع سواء قدّمت أفكارًا صالحة للتطبيق أو لا.. إذا كان الحوار مساحة للنقاش وخطوة نحو توافق كل التيارات، فإن بث الجلسات انحياز لمعرفة الناس وتمكين للقوى السياسية.
 
تعطّلت قنوات الاتصال طويلاً، صحيح أن لذلك أسبابًا وظروفًا يعلمها الكافة وإن اختلفوا على بعضها، لكن الإقلاع من هذا التعطُّل ليس مُستحيلاً، المهم أن يعى الجميع ويتّفقوا على أنه غاية لا وسيلة، واستراتيجية لا تكتيك. والحال هكذا، يبدو الحوار الوطنى رهانًا قائمًا بذاته، بمعنى أن قيمته الأولى وتحدّيه الأكبر فى وجوده واستمراره، بغض  النظر عن توفيق المشاركين فى اجتراح حلول بالجملة لكل ما يُثار على طاولة النقاش، ستُقاس كفاءة تلك المنصّة بقُدرة المنخرطين فيها على الانتقال بها من حالة الضرورة الظرفية إلى المنهج المُستدام، وامتداد فاعليتها إلى قنوات الاتصال الثنائية والموسّعة بين الدولة وتيارات السياسة والمجتمع المدنى، المعتاد أن يبدأ نشاط الأحزاب من أسفل/ الجمهور، لكن بفعل الخفوت الطويل يفتح الحوار مساحةً على قمة الهرم/ الدولة، لا غنى عن العودة إلى الوضع الطبيعى أبدًا، إنما يمكن الانطلاق من الاستثناء باتجاه تمهيد المجال العام، وتقوية ماكينات السياسة، وتحفيز أدوات اتصال حزبية أكثر فاعلية فى مخاطبة الشارع، سعيًا إلى استعادة القدرة الذاتية على الوصول للناس بشكل مُباشر.
 
من جانب الحلول، فإن تنوع الركائز الأيديولوجية والفكرية، بل وتضاربها أحيانًا، ستنتج عنهما بالضرورة اختلافات جوهرية فى المُخرجات، يلتزم الجميع بمرجعية الدستور، لكن قد يقود التشعّب وزحام الموضوعات والمشاركين إلى مساحات مُلتبسة: يُؤمن البعض مثلاً بالاقتصاد المُوجّه وقد ينحازون لخيارات ناشئة عنه، وربما يُقدّم آخرون تصوّرات مُضادة تدفع نحو انفتاح أكبر أو ترشيد للإنفاق العام إلى درجة لا تحتملها الظروف الاجتماعية، المؤكّد أن كل الأطراف يضعون أيديهم على نقاط شبيهة، وربما تجنّبوا بعضها عمدّا من أجل العبور بالتجربة دون صدام، مثالاً «ملف الإيجار القديم» الذى أعلن رئيس الأمانة الفنية عرضه على مجلس الأمناء بعد إثارته فى أحد البرامج، ويُمكن أن يتكرّر الأمر مع عناوين أُخرى، ولدى الحوار ديناميكية تسمح باستيعاب ما يُستجد، المهم أن يظل التعاطى مع الموضوعات هادئًا مهما كانت حساسيتها، بالتأكيد لن يُصادَر حق أى طرف فى إبداء ما يُريد، والمنصّة تستوعب كل أنماط الخطاب كما استوعب الافتتاح أحاديث ساخنة إلى جوار اشتباك عميق أو رسائل عاطفية تميل إلى الشعبوية من بعض رؤساء الأحزاب، إذا كان كل الكلام مُقبولاً ولا قيود عليه، فإن معيار الجدارة لن يكون فى درجة السخونة، إنما فيما يعكسه من صورة موضوعية عن الشخص وتيّاره، وعن أثرهم فى استقامة مسار الحوار واستدامته، حتى لو اختلفنا بشأن صلاحية الاقتراحات.
 
الوقت أحد أهم الاختبارات، ويتوجّب على كل المشاركين البحث عن أيسر السبل لعبوره بالعلامة الكاملة، وفق حسبة الجلسات يلتقى ثلاثون مُتحدّثًا لمدة 3 ساعات، ما يعنى أن نصيب كل فرد 6 دقائق، سواء بالجملة أو انقسمت إلى كلمة وردود ومداولات، التحدّى أن يصل كل تيّار إلى أفضل صيغة تسمح بالتعبير عن رؤاه بوضوح وإيجازٍ وإحكام، مع تقديم برامج مُنضبطة بالمنطق والإمكانية، يُضاف إلى ذلك اقترابنا من الانتخابات الرئاسية ربيع العام المقبل، ولأن الحوار تحت مظلّة رئاسية فإنه مُطالب بالوصول إلى مُخرجات حقيقية فى غضون أسابيع أو شهور قليلة، حتى تأخذ مسارها باتجاه التطبيق قبل موعد الاستحقاق.. وربما يمتد اختبار الوقت إلى كفاءة الوقوع على لغة مُشتركة بين مكونات الحوار، تُيسّر إنجاز التفاهم، ولديها إمكانات البقاء والاستمرار داخل المنصّة أو فى السياق الطبيعى الواسع.
 
لا أتصوّر أن أحدًا سيسعى إلى الإمساك بخناق الحوار، ولن يكون بمقدوره ذلك لو أراد، إذ ليس من مصلحة شخص أو فريق أن يُهيمن على تلك المساحة المُشتركة، انطلاقًا من أنها مسؤولية فى المقام الأول، وتحظى بغطاء من أرفع مؤسَّسات الدولة، وتقع تحت رقابة شعبية مُباشرة بفعل العلنية وخروج مداولات السياسة وتوازنات قواها وتطلّعاتها إلى النور، المهم ألا يستسهل أحد تلك الضمانات فيتعامل مع التجربة بمنطق «شدّ الحبل»، لا سيّما أن «نعمة العلانية» التى قد تُغرى البعض بالاستخفاف أو المُزايدة، تربط طرف الحبل الآخر بالشارع، وأى تجاذب غير محسوب مع الناس قد يتسبّب فى خسارة صاحبه، ولعلّ تجارب 2011 وما بعدها أثبتت لكل الأحزاب أنه لا حصافة فى الانفصال عن الجمهور تحت أى مُبرّر، ولا نفع مهما كانت التحدّيات فى التقوقع والانكماش، أو فى التعالى على اشتراطات اللحظة ومقتضيات الظرف التاريخى.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة