كل الأحزاب تُجيد أحاديث السياسة، وهذا شُغلها الأول بالطبيعة والدور؛ إنما ليس الوحيد، ولا يُمكن الحكم على أىٍّ منها، حكمًا وافيًا يُراعى واقعها خارج السلطة ويتحسَّس مستقبلها إن وُفّقت فى الوصول إليها، من دون النظر فى بنائها المؤسّسى، وتكامل عناصرها، وحجم ما تملكه من أفكار خارج الأيديولوجيا والتنظيم؛ ربما لهذا يكتسب المحوران الاقتصادى والمجتمعى فى الحوار الوطنى أهمية مُضاعفة، صحيح أنهما يتصدّران أجندة الحدث حجمًا ونوعًا، مع وزن نسبى بنحو 71 % من القضايا و14 لجنة من 19، واتِّصال وثيق للغاية بالشارع وشواغل الناس ومعيشتهم؛ لكن إلى كل ذلك يُمثّلان اختبارًا حقيقيًّا للقوى السياسية على تنوّع الاتجاهات والمرجعيّات: اختبارًا أمام قاعدة الجمهور وأمام أنفسها أيضًا؛ وأحسب أنها تحتاج فى نهاية الحوار أن تُخضع مجموع مُشاركاتها فى المحورين للدرس والتدقيق؛ إذ يُمكن أن يكونا كاشفين لحجم ما لديها من مزايا، وما ينقصها من كوادر أو تعانيه من ضعف.
شهد ثانى أيام النقاشات المُوسَّعة من الحوار 4 جلسات مُوزّعة على لجنتين فى المحور الاقتصادى، بواقع 3 موضوعات: برامج الحماية الاجتماعية، صياغة الخريطة السياحية، ووسائل تحفيز الاستثمار السياحى. فى تلك النوعية من الموضوعات تتراجع فُرص الأيديولوجيا أمام الحاجة لقراءات ناضجة واقتراحات معقولة وبدائل قابلة للاعتماد، ويصعب فيها تفعيل الخطابات الشعبوية بما تضمنه لمُحترفيها من جاذبية ودغدغة للعواطف؛ إذ يرتبط الأمر بأرقام ومُؤشّرات وتحدّيات مُلزمة لا تسهل مناورتها والفكاك منها.. حضر الجميع فى جلسات الثلاثاء وتحدّثوا، كانت مُداخلات الخبراء والفنيّين أعمق وأكثر نفاذًا للجوهر، وهذا طبيعى ومفهوم؛ إنما ما يقع موضع الاستغراب أن الحصّة الغالبة من أُطروحات السياسيين ومُمثّلى الأحزاب جاءت منزوعة الدسم، قريبةً إلى الإنشاء، مُنقطعةً بوضوح عن التشخيص الدقيق للحالة، وبالتبعية فإنها لم تُقدّم قراءة كاشفة أو أفكارًا خارج العادى والمُتداول.
بدا فى الشق الاجتماعى أن هناك لبسًا لدى البعض بين «الحماية» و«العدالة». ربما يتطابق المفهومان فى وعى العامة، لكن لا يصح أن يقف السياسيون عاجزين عن رسم حدود واضحة بينهما. تحدّث فريق عن الإسكان والدخل وهما من موضوعات العدالة الاجتماعية، من حيث كونها مدخلاً للتمكين وتكافؤ الفرص وحركيّة المجتمع، بسياسات عمل وأجور وإسكان وضرائب تكفل التوازن بين الفئات وتُحصّن فرص الترقّى الاجتماعى، بينما «الحماية» درجة أولى على السُلّم تحفظ الفئات الدنيا من السقوط.. فى السياحة لم يختلف الأمر كثيرًا؛ فباستثناء أهل الاختصاص كانت أحاديث القادمين من دولاب السياسة خفيفةً لا تنفذ إلى العظم، ولا تنمّ عن مُذاكرة جادة واستيعاب حقيقى، حتى أنها أوغلت فى اتجاهات قد لا تتواءم مع الظرف الراهن، وظلّت حبيسة المُعتاد عن السياحة الثقافية والشاطئية، دون اقتراب عميق لمساحات أكثر ثراء تُوفرها الإمكانات البيئية والدينية والعلاجية والرياضية، وسياحة الأعمال والمؤتمرات والترفيه والتقاعد والصحارى والمُغامرة، والأخيرة قاربت 300 مليار دولار بنحو خُمس إيرادات السياحة العالمية فى أعلى مستوياتها قبل «كورونا». تصلح العناوين العريضة للندوات الجماهيرية والنقاشات العمومية، لكن أمام البحث عن بدائل منطقية وبرامج صالحة للتطبيق، يحتاج الأمر ما يتجاوز الرسائل الفضفاضة، وعلى الأحزاب أن تعى ذلك.
تعافت السياحة العالمية نسبيًّا من تأثيرات مرحلة الوباء. الآن تُلامس مستوى مليار سائح سنويًّا؛ مستعيدة نحو 70 % من زخمها السابق؛ لكن حصّة مصر لم تتجاوز تقريبًا 1 % حاليًا وفى الماضى، بينما تملك مقوّمات وعناصر جذب قادرة على مُضاعفتها مرتين أو ثلاثًا. فجوة «الواقع والمأمول» تتطلّب العمل على تعبئة المساحة بينهما بأفكار وبرامج وآليات غير مُستهلَكة، لا تقع كلها فى حيِّز الأمور الفنية فقط، إنما تتّسع لتشمل أبعادًا سياسية واجتماعية وثقافية، وكل ذلك ينطلق قبل أى شىء من الوعى الكامل بالذات، والإحاطة بمكوّنات المشهد المحلى؛ ثم تصميم وبناء هوية سياحية مُتنوّعة، بتوازنٍ خلاّق بين ما نملكه وما يحتاجه العالم ومستهلكو البضاعة السياحية.. إلى الآن للأسف لا تزال تصوّرات أغلب المُنخرطين فى نقاشات القطاع قاصرةً نوعًا ما، وتتركّز بالكُليّة على مداخل تقليدية وعناوين عريضة وعموميّات، دون ذهابٍ للتفاصيل أو اجتراح مسارات بديلة بإمكانها إغناء السياسات القائمة، وإبراز حيويّة السوق ومراكزها النشطة، وتطوير رؤية الدولة والتنفيذيين لحدود الشراكات الممكنة لدفع السياحة قُدمًا.
تستقبل فرنسا 90 مليون سائح، و82 مليونًا فى إسبانيا و80 فى الولايات المتحدة؛ بينما أعلى مستوى سجّلناه 14.7 مليون سائح و147 مليون ليلة فى 2010، وقتها كانت لدينا 180 ألف غرفة ومتوسط إشغال 60 %. اليوم نملك غرفًا أكثر بـ20 % وإشغالاً يصل 85 % فى بعض المواسم؛ أى أننا قادرون على استيعاب 20 مليون سائح و200 مليون ليلة على الأقل فى وضعنا الحالى، دون ضغط أو أزمات.. السياحة سلعة تصدير عالية العائد؛ لكنها تحتاج إلى تجاوز فلسفة البيع بالجُملة، وإلى ترفيع السياحة الداخلية، وفصل الملكية عن الإدارة؛ لتنشيط الاستثمار ومرونة الدخول والتخارج دون مُعوّقات، والوعى بأنها لا تزدهر إلا مع بيئة حاضنة أكثر إيمانًا بأهميتها وعملاً على تعزيزها، وأن المناخ العام يلعب دورًا أصيلاً بالنظر إلى تأثُّر حركة السفر والترفيه بالأجواء السياسية والاجتماعية، وأن ما يتحقّق فى سنوات قد يتجمّد أو ينحسر خلال شهور؛ إذا لم تكن كل قدرات الدولة صديقةً للقطاع ومُخلصةً فى إسناده بفاعلية واستدامة.
تُمثّل صناعة الضيافة نحو 10 % من الناتج العالمى، وتقفز لـ20 % فى بعض الاقتصادات الصغيرة. النسبة فى مصر لا تتجاوز 12 %، وهى أقل كثيرًا مما يُمكن تحقيقه. عدد الغرف 211 ألفًا تنمو بـ1 % سنويًّا؛ ربما يرى البعض أن طاقة القطاع أحد العوائق أمام فرص نموّه، ولا شكّ فى أننا نحتاج لمُضاعفة القدرات الحالية بوتيرة أسرع؛ لكن رغم ذلك فإن المتاح قادر على استيعاب ضعف المُتحقّق حاليًا من الزوّار أو الليالى. التحدّى هو: كيف ننمو بالقاعدة الاستثمارية دون إضرار بالعوائد وجاذبية المقصد؟ يتطلّب الأمر نموًّا مُخططًا بواقعية ووعى، يتوازن فيه توسّع السوق أُفقيًّا مع رفع مُعدلات الحركة الوافدة؛ إذ إن الإفراط فى المنشآت قد يضر بالتسعير، وصولاً إلى تراجع الجودة وبالتبعية إحجام الزبائن، لا سيما أننا وجهة تنافسية للغاية بالأسعار الحالية، وفى ضوء معادلة سعر الصرف فإن رحلتنا أقل كُلفة بكثير من أغلب المنافسين. أمام تلك الميزة نحتاج لدراسة مسائل عدّة: النمو وتكامل الخدمات، تنويع المقاصد والبُعد عن تسويق مصر «وجهةً واحدة»، عدد الليالى ومتوسّط الإنفاق، والخطوط المُنتظمة والرحلات العارضة والفردية، وكيف يُمكن العمل على كل نُقطة منها حتى نتّخذ مسارًا صاعدًا باطّراد، يُقدّم حزم ترفيه جاذبة ومُغرية بتنوّعها، ويفتح قنوات تصدير بمعروض واسع من البرامج حسب طبيعة الأسواق المُستهدفة ومستويات الدخل فيها، والتوسّع فى الخدمات الفاخرة إلى جانب الخطط الاقتصادية والشعبية، وصولاً إلى أعلى متوسط عائد عن الليلة بدلاً من حسبة أعداد السائحين.
لا يُمكن وضع عُنصر فوق آخر فى المُعادلة؛ لكن واقع الأمر أن السياحة «خدمة وجودة» أكثر من كونها منشآت ولوجستيات. كذلك فإن حالة القطاع ملف فنى بدرجة أكبر من تشابكه بالسياسة؛ ومع ذلك يتعيّن على السياسيين والأحزاب أن يكونوا قريبين منه وقادرين على خوض نقاشاته. أهمية ذلك أنه أحد المحاور المهمّة فى تقييم تيارات يُفترض أنها تسعى إلى السلطة، وقد تكون مسؤولة عن إدارة الملف مع غيره من الأمور الفنية يومًا ما؛ ثمّ إنه يُبرز نضج التعاطى مع الموضوعات خارج الاستقطاب والمزايدة، وأخيرًا فقد يتجلّى من خلاله حجم الأهليّة والجاهزية وقاعدة الخبراء والفنيين لديهم. بالفعل حضروا وتحدّثوا، وبعيدًا من إفراط البعض واستهلاكهم الوقت فى بديهيات من عيّنة قيمة السياحة وأهميتها وأثرها الاقتصادى، لم تخرج أغلب الرؤى عن الأفكار العامة والخطوط العريضة والعناوين المُثارة إعلاميًّا وبين العوام، مثل تعظيم الإنشاءات وتطوير المزارات وتدريب الكوادر وزيادة حركة الطيران، دون تعمُّق أو خطط تفصيلية أو اقتراحات مُتماسكة لقوانين ومشروعات تنفيذية. بدا الأمر أقرب إلى خطابات شعبوية من السطح؛ لا رؤى جادة تقرأ الواقع وتستشرف المُستقبل وتُجسّر الطريق بين الحالين.
ربما جاء ترتيب المحاور والملفات عفو الخاطر؛ لكن لا يمكن إغفال احتمالية أن يكون مقصودًا ونتاج مواءمات وتوازنات قوى داخل مجلس الأمناء وبين التيارات، ومن هذا الوجه فإن الدلالات تُشير إلى وضع المحور السياسى أوّلاً؛ رغم خفّته النسبية بأقل من ثلث اللجان والموضوعات، وحضور الملف المجتمعى تاليًا للاقتصاد. يجوز أن نختلف فى الأولويات، لكن علينا أن نضع فى اعتبارنا كيف ينظر المواطنون للمشهد. بالتأكيد لا يُرتّبون قضايا الأسرة والشباب والتعليم والصحة فى آخر القائمة، ولا يرون التضخم والديون والصناعة والزراعة والاستثمار وملكية الدولة رديفًا لما يمنحه السياسيون مرتبة الأولوية من أمور الأحزاب والانتخاب والبرلمان والمحليات والنقابات. كل القضايا مهمّة من دون شك، وكلها فى انتظار التوافق على مسارات وبرامج عمل، وتسير مُتوازيةً على قدم المساواة، لكن فى الوعى والممارسة اليومية تحتاج التنظيمات السياسية لترجمة اهتمامات الناس إلى مزيد من التركيز والجدية فى التعاطى مع الأمور الفنية، وإثبات أن لديها رؤى تخصّصية شاملة، ولا تنقصها الكوادر والخبرات القادرة على التصدّى لأدق العناوين وأعقدها. انطلاقًا من أن «الحوار» منصّة استشارية ظرفية تُحاول ملء المساحة بين الدولة والشارع، فى توقيت ذى طبيعة خاصة بما يُغلّفه من ضغوط وتحديات داخلية أو مُستوردة، وأنه معنىٌّ باستخلاص أفكار وحلول واقعية لتنشيط المجال العام فى كل مكوناته دون انحيازٍ أو إهمال، ربما يحتاج الحزبيّون قدرًا أعمق من النظر فى الأوراق الفنية والاشتغال عليها بإخلاص ودأب، وربما لكل ما سبق، ولأسبابٍ أخرى، يجب ألّا يتعاملوا بمنطق أن السياسة أوّلاً وقبل كل شىء.