حازم حسين

المستقبل يبدأ من غرف الولادة.. نحو شراكة ديناميكية فعّالة فى قضية السكان

الثلاثاء، 30 مايو 2023 12:08 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان رقم 26 مليون نسمة كفيلاً بدق ناقوس الخطر. اهتمّت الدولة بملف السكان منذ ستينيات القرن الماضى؛ لكنه كان اهتمامًا قاصرًا ومحدود الأثر، تركّز فى أغلبه على خطاب سياسى مُباشر وإجراءات تنفيذية مبتورة. بعد 20 سنة تضاعف العدد تقريبًا، ثم أُضيف نحو 60 مليونًا منذ 1986 إلى الآن.. إجمالاً يُمكن القول براحة ضمير إن كل الخطط والبرامج والحملات المُنفذة خلال ستة عقود لم تُثمر شيئًا ذا قيمة، بعيدًا من تجربة فرج الكامل وكريمة مُختار الجيدة فى رؤيتها ورسائلها منتصف الثمانينيات؛ لكن ما سبقها وتبعها اتّخذ منحى أقرب إلى الكاريكاتورية والسخرية، ولم يُراع رُزمة الفروق الجغرافية والثقافية بين قطاعات الجمهور، كما لم يسدّ لديهم احتياجًا حقيقيًّا تولّدت عنه فورة الإنجاب الكثيف. اليوم، ومع إفساح حيّز عريض لإثارة القضية على طاولات «الحوار الوطنى»، ربما يكون لزامًا على كل الأطراف البدء من الماضى، ودراسة محاولاتنا القديمة وبواعث إخفاقها، ورسم ملامح مرحلة جديدة أقدر على الوصول والفاعلية وتعويض ما فات.
 
البداية المُرتبكة خلال الستينيات أنتجت صورة سلبية عن مسألة تنظيم الأُسرة؛ إذ جرى تسويقها على أنها رغبة رسمية فى تحديد النسل وإغلاق محبس الإنجاب تمامًا. لاحقًا تحسّن الوضع قليلاً وبالتدريج، لكن ألقت السياسات الخاطئة ظلالاً رمادية على القضية بكاملها، حتى فى اللغة المُستخدمة. ربما يبدأ المدخل المطلوب والمناسب حاليًا من قطيعة كاملة مع اللغة القديمة، كأن يكون «ضبط النمو السكانى» عنوانًا تعويضيًّا عن «تنظيم النسل»، وأن يُدار من زاوية تجفيف المنابع بدلاً من بناء السدود على مسار الفيضان الهادر، مع العمل فى مسارات مُتوازية لا تفصل الدعائى عن التنموى. أوضاع المجلس القومى للسكان حاليًا ليست الأمثل، ويتعيّن إعادة هيكلته وإلحاقه برئاسة الوزراء، أو أن يتّخذ صيغة مجلس أعلى للسياسات السكانية ويتبع رئيس الجمهورية، على أن تتّسع صلاحياته لتكون له الولاية الكاملة على الملف، عابرًا بين الوزارات والهيئات المعنيّة، كما يجب أن يُوضع التواصل مع الناس فى عهدة مُختصّين بالإعلام والاجتماع والثقافة والفنون، وتُصاغ مدوّنة سكّانية لتنظيم عمل وسائل الاتصال الجماهيرى، ومسارات إنتاج الدراما والغناء، بما لا يتعارض مع المُستهدفات المرحلية والاستراتيجية، ولا يتورّط فى تسييد أوضاع يُراد تغييرها.
 
احتياج الدولة فى مسألة السكان واضح وثابت، يدور فى مُجمله حول كيفية الوصول إلى علاقة مُتوازنة بين معدلات المواليد ونموّ السكان من جانب، وحاجة الاقتصاد وقدراته فى جانب ثانٍ. أما حاجة المواطنين فتتنوّع وتختلف بحسب البيئة والعُمر والثقافة ومستوى المعيشة. الوصول إلى صيغة عاقلة وفعالة للتنظيم يجب أن ينطلق من الفرد لا المجموع، من الشارع لا جلسات التكنوقراط أو ندوات السياسيين، وأن يُراعى طبيعة المعنيّين بالخطاب وتفاوت غاياتهم؛ أى أنه لا يجب التعامل مع الكتلة الشعبية باعتبارها كيانًا واحدًا مُصمتًا، إنما تفتيتها إلى فئات ومجموعات يُعاد إنتاج الرسالة المقصودة على صور تُلائم كل دائرة منها. مُشكلة الطرح المعرفى والنقدى عن الأزمة أنه محصور فى رؤية كُليّة تتجاهل التمايزات، ومُعوّقات أغلب الحملات السابقة أنها وضعت المُتلقّين جميعًا فى سلّة واحدة؛ أما المطلوب فأن تُضبط الغاية على مقياس أوسع، ثم تتفرّع إلى وسائل عدّة لا وسيلة واحدة، ويكون الحساب فى الأخير وفق المُستهدفات النهائية والمرحلية فى كل بيئة وشريحة اقتصادية ومجال اجتماعى وثقافى.
 
تُفكّر الدولة بموضوعية، بينما الأفراد أسرى لذاتيّتهم ويتحرّكون وفق مصالحهم المُباشرة، الأولى هدفها الجسد الجامع، بينما كل عضو ينظر إلى سلامته فقط، وتلك طبيعة الأمور وعادة النفس الإنسانية.. يُمكن أن نُحدّثهم طويلاً عن الأعباء التى تتكبّدها المالية العامة بفعل انفلات الإنجاب؛ لكن ما يُؤثّر فيهم أكثر حجم ما يقع على مداخيلهم ومعيشتهم وحالات بيوتهم. كثيرون قد يُكايدون الحكومة فيما تريد، أو يرون فى مُضاعفة عدد الأسرة موردًا مُحتملاً للدخل، أو يعتقدون أنهم يتعبّدون بالنسل ويُحقّقون ما قاله لهم شيوخهم عن مُراد الله فى الناس. دور العقل المؤسّسى أن يتدخل فى تلك المساحة الواسعة من البواعث والأهواء، وأن يردم الفجوات ويسدّ الثقوب، ويُقدّم مُعالجات منطقية تضع المصلحة العامة فى خطّ واحدٍ مستقيم مع المصالح الخاصة، على أن يُدار كل ذلك بوعى وإتقان. إذا شعر الفرد بأن ما تنادى به المنظومة الرسمية ويُلقيه الإعلام على سمعه، يخص أسرته ومطبخه بقدر ما يتّصل بالموازنة ومخازن وزارة التموين؛ فلن يكون التوافق والعمل المشترك صعبًا، وسنقطع نصف الطريق «الأصعب والأهم» نحو الحل.
 
يتطلّب هذا المستوى من نضج التعاطى، أن ننحو مسارًا لا مركزيًّا فى جانب عريض من الخطط وبرامج التنفيذ، دون تخلٍّ عن المركزية أيضًا؛ بوصفها عقل الرؤية ومرجعيتها وقناة الاتصال والتنسيق مع أطرافها. إلى اللحظة لا يعى كثيرون من القيّمين على الملف أن ما يصلح فى الدلتا ليس شرطًا أن يُؤتى أثرًا فى الصعيد، وأن ما يُلائم الفلاحين قد يتصادم مع البدو أو الحرفيّين والصيادين، وما تستوعبه عقول المُتعلّمين يشق على الأُميّين والبسطاء، وما يُقال للحكومة وفى جلسات الخبراء لا يصح أن يُنقل بحالته إلى العوام وتشابكات الشارع. لا خلاف على أولوية القضية وما نرجوه فيها، إنما التنازع فى الوسائل والآليات التى يُمكن أن تُفضى إلى تقدّم ونتائج حقيقية، وخبرتنا طوال العقود الماضية أن كل ما جرّبناه لم يكن صالحًا تمامًا، أو وقفت آثاره عند الحد الأدنى الذى لا يُلبّى حاجتنا الفعلية، ولا يُكافئ ما أنفقناه عليه من وقت وجهد ومال. الجَردة الأخيرة لمُقدّمات الجهود وحصيلتها تفرض علينا النظر من زاوية مُغايرة، والبحث عن مسارات بديلة، وابتكار سُبل ورسائل وأدوات تنفيذ وقياس لا تشبه كل ما فات، وإن استضاءت بما أحرزناه فيه من توفيق باهت أحيانًا، أو ما تراكم خلاله من معرفة وتجارب وخبرات.
 
إذا كانت الأزمة تتغذّى على موروث الاعتقاد والاجتماع والفقر وقلّة الوعى وغير ذلك؛ فإن أى تعامل مع نهاية الخط، من حيث محاولة إدارة أو تقويض «ماكينة الإنجاب» بعيدًا من طاقة تشغيلها، لا يعدو كونه علاجًا للأعراض لا أصل المرض. يجب أن تنطلق الأفكار والبرامج من الجذور، ويحدث هذا بالفعل وإن بدرجة غير كافية؛ ما يتطلّب اشتباكًا حقيقيًّا مع منظومة العادات والخطابات الدينية وملفات التعليم والثقافة والمعيشة. الأهم أن يعى كل مواطن أن تقليص الفجوة بين انفلات السكان ومحدودية الموارد احتياج شخصى يمسّه مباشرة، بقدر أهميته للمجموع/ الدولة، وأن أثر ثقافة الزحام يضرب حياته ومستقبل أولاده فى العمق، وبإيقاع يتناسب مع التسابق المحموم بين شركاء المجال العام على مُراكمة فوائض البشر بدلاً من فائض الدخل. هذا الزحام سبب رئيسى لمحدودية الخدمات أو تراجع جودتها، وفى طليعة أسباب غلاء الأسعار وتدنّى الرواتب، وحالة المواصلات والتعليم والترفيه وحصار فرص الترقّى الاجتماعى والاقتصادى، وما يُمكن أن يُستجدّ من تحديات، لا سبيل إلى تجاوزها جميعًا من دون تراجع جادٍ وشامل من كل الأطراف عن إيمانهم الحجرى العميق بالزحام، واستمرارهم فى تغذيته وتأجيج ناره.
 
كل طفل جديد يُكلّف الدولة مبالغ طائلة منذ ولادته حتى التحاقه بسوق العمل. ما المانع فى أن يذهب جزء من التكلفة المُرهقة للاستثمار فى البشر؟ بمعنى أن تستفيد كل أُسرة بنسبة من الكُلفة المُحتملة إذا تخلّت عن إضافة فرد جديد للتعداد. طرحت الحكومة تصوّرًا لبرنامج حوافز مُوجّه للنساء اللواتى يلتزمن بإنجاب طفلين فقط حتى عُمر 45 عامًا. قد لا يكون الرقم المطروح مُغريًا بالدرجة الكافية؛ لكن إلى ذلك تقل فاعليّة المُحفّزات المؤجّلة مقابل المزايا الوقتية ومردودها المادى والمعنوى المؤثّر. نحتاج إلى تصوّر أكثر موضوعية وكفاءة لإشعار المواطنين بالعائد المُباشر لكل لحظة التزام، وأن يُعيدوا حساباتهم قبل التفكير فى التخلّى عن الانضباط المُثمر؛ حتى تترسّخ الفكرة وتُصبح ركيزة ثابتة ضمن البنية الاجتماعية ومكوّنات الشخصية المصرية. هل نحتاج مقابل ذلك إلى عقوبات؟ ربما يرى البعض أن فلسفة العقاب تضر الأطفال أكثر من الآباء؛ لكن لا يجب أن تظل القرارات المُنفلتة آمنة تمامًا إلى النهاية، ومع اعتماد منطق الثواب والمكافآت الإيجابية، فقد يكون ابتكار قيود أو محاذير «محدودة ومنضبطة» على الإنجاب المُنفلت أمرًا منطقيًّا، وتعلو فوائده على ما يُخشى فيه من أضرار.
 
إذا كان الرجال «دوّاسة البنزين» فى موضوع الإنجاب، بعناوين القوامة والعزوة والذكورة وقوة العمل؛ فإن أنجع المسارات تبدأ من تنشيط «مكابح النساء». المرأة أكثر المُتضرّرين جرّاء الأعباء الصحية والمنزلية فضلاً عن نصيبها من الإعالة المباشرة، وعن شفقة الأمومة على أبناء يأتون فى ظروف غير مُلائمة.
 
يتطلّب ذلك مزيدًا من العمل على التثقيف والتأهيل، وتعزيز التمكين تعليميًّا واقتصاديًّا عبر تيسيرات ومنح دراسية وائتمان مُيسّر وبرامج نوعية للمشروعات الصغيرة وريادة الأعمال. كلما ضاقت اختيارات النساء تضخّمت رغبات الذكور وسادت أعرافهم، وإتاحة مزيج من البدائل لهن قد يُوسّع مساحة القرار المشتركة داخل الأسرة ويُعزّز حصّتهن فيها. إذا قلّت معدلات الزواج المُبكّر ونمت فرص التحقُّق فى بيئة العمل؛ سيتقلص معدل الخصوبة تلقائيًّا، لا سيما مع المزايا الإضافية والاهتمام بالصحة الإنجابية وتوفير الوسائل وحصار حالات الحمل غير المرغوب، ومع أثر السياسات الاقتصادية والتنموية وارتداداتها على مستوى المعيشة ونوعيتها. المشكلة نتاج حزمة مُثيرات، ولا حل إلا بحزمة إجراءات.
 
علينا الاعتراف بأنه لا فاعلية لرسائل تُنمّط مُستقبليها، أو تتجاهل نسبية التلقّى ومعايير الوقت والعُمر والبيئة والظرف الاجتماعى. والانطلاق خارج الخصائص السكانية قد ينطوى على قصور مُعطّل؛ إذ لكل نطاق جغرافى حالته وديموغرافيته واحتياجات ناسه، وإعادة الانتشار قد تقود إلى إزاحة الأعراف القائمة أُفقيًّا لتُغطّى البيئات البديلة؛ ما لم تُنجز وفق مواصفات سكانية وتنموية واضحة ومقصودة. أنجزت الدولة على صعيد إعادة تأهيل المراكز الحضرية والتجمُّعات الريفية، وإرساء ركائز عُمرانية مُستحدثة وفق مُتطلّبات التنمية وزيادة المعمور؛ لكن عوائد تلك البرامج كثيفة الاستثمارات تتصل، وفرةً أو نقصانًا، بما يتحقّق فى مسار بناء الإنسان والاستثمار فى الكُتلة البشرية الهادرة. نعانى اختلالات ناجمة عن غياب عدالة التنمية عقودًا طويلة، وعن سياسات سكانية تسبّبت فى نزوح غير مُنظّم، وعن موازين اقتصادية وعلاقات عمل ألقتها حكومات عديدة سابقة وراء ظهورها، وإذا وضعنا نقطة فى آخر سطر الانفلات السكانى الآن؛ فقد نظل واقعين لعقدين مُقبلين تحت أعباء السنوات الماضية، وكلّما تأخّرنا طالت المّدّة. هكذا لا يبدو التباطؤ خيارًا سليمًا، ولا يصح أن تظل غاية الحل بعيدة عن شراكة المُتسبّبين فى المشكلة. المسؤولية داخل كل بيت، وعلينا مُصارحة كل مواطن بأن واقعه ومُستقبل أولاده يبدأ من «غرفة الولادة»، وهو شريك مُباشر فيه، وكيفما يختار اليوم سيتكبّد أو يجنى غدًا.
 






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة