أرادت «الإخوان» أن تحوز كل شىء؛ فخسرت كل شىء. لا ينطبق ذلك على مشهد الأُفول وسقوطها المُدوّى فى السياسة بعد يناير 2011، إنما يعود إلى منشأ الفكرة التى أراد صاحبها أن تكون بوّابته على أغراض أكبر، فلم يُحرز أيًّا من أهدافه المُتضاربة فى حياته، ولم يفلح ورثته فى إصابة ما عجز عنه؛ فتأكّد عمليًّا أن الداء فى أصل الشجرة، وليس ناشئًا عن الظروف أو حملته الرياح مع تقلُّبات الساحة. باختصار؛ عندما عرّف حسن البنا تنظيمه الناشئ بأنه: «دعوة سلفيّة، وطريقة سُنّية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، وروابط علمية ثقافية، وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية»، كان يحكم عليه مُسبقًا بالفشل؛ انطلاقًا من أنه جمع مُتناقضات عدّة، وحاول التوفيق بينها بآليّات لا يمكن أن تنسجم معًا؛ فسقط بين أثقال الرجعية، وطبعته المُشوّهة من التصوُّف، واجتراح السياسة بمنطق الفرقة الناجية، وتحويل الرياضة البدنية إلى نشاط ميليشيّاتى مُسلَّح، وصولاً لمُقاربة العلم من أرضية شمولية، وتغليب المنفعة على منطق الاقتصاد فى النموّ والتحديث، وحصر الاجتماع فى بناء حواضن انعزاليّة «جيتوهات» جعلت الجماعة شرخًا فى الجدار الوطنى بدل أن تكون جزءًا عضويًّا منه. وتلك الخِفّة الظاهرة فى التنظير والتأسيس عبرت معهم، وكانت عنصر تقويضٍ فى كل المراحل والمُنعطفات؛ حتى أفضت إلى عجز كامل عن استيعاب شروط اللحظة، ودفعت التنظيم على مُنحدرٍ وَعِرٍ فى 2013.
كان الرهان على ما يبدو أن تُطرح الجماعة مُساحةً وسيطة، تُعرّف نفسها بكل الأوصاف المُمكنة؛ حتى تلعب فى كل النطاقات وتجتذب العناصر من كل الخصوم؛ لكن الخطوة التى عَدّها المُؤسِّس عنصر قوّة أفقدتهم التجانس ووحدة الأيديولوجيا، وإن أخذتهم نشوّة التمدُّد السريع فى أوَّل التجربة وأعمت عيونهم عن الحقيقة. بدأ «البنا» مُنخرطًا فى الطريقة الحصافية المُتفرِّعة عن الشاذلية، لكنه بفعل انحراف الأفكار وزيغ التطلُّعات طُرد منها سريعًا، ورفض شيخه فكرة «الإخوان» وانتقدها. هكذا سقط مُدرّس الخط الفقير فى امتحان التصوُّف، كما سقط فى الاقتصاد، ولم يُعرف سياسيًّا أو رياضيًّا أو عالمًا ومُثقّفًا. اختار الرجل أن يُرسى دعائم تنظيمه خارج المتن الاجتماعى/ الإسماعيلية، وكانت طليعته من بعض عمالٍ وحرفيّين جهلة، وشملت أهدافه كل المجالات التى لا يُحسنها وليست لديه دراية عميقة بها، فبدت المفاهيم مُشوّشة، والممارسات منحرفة، والجماعة ميدان اختبار للطموحات، أكثر من كونها ساحة إنفاذٍ لأفكار ناضجة وبرامج عملٍ مُكتملة. وعلى الدرب نفسه سار تابعوه جميعًا، مُتصدِّرين بغشومية وجهل لكل ما لا يُحسنونه، ولقِلّة الوعى جرّبوا الأدوات غير المُناسبة فى عناوين خاطئة. ليست الأزمة أنهم جهلوا ذلك وتمادوا فيه من دون عقل أو بصيرة؛ بل إنهم حاولوا إقناع الآخرين بكفاءتهم وسلامة منهجهم. يُشبه الأمر أن تضع مُزارعًا فى قُمرة طائرة، ثمّ ترفع الفأس على الجميع باذلاً طاقتك فى إجبارهم أن يربطوا الأحزمة، ويستسلموا للموت المجّانى المُنتظر.
قبل أحد عشر عامًا تقريبًا أدّى محمد مرسى صلاة عيد الأضحى فى مسجد «الرحمن الرحيم»، وسط إجراءات أمنية مُشدَّدة للغاية وانفصالٍ حادٍّ عن الناس كعادته منذ اعتلاء السلطة. كان الإخوان جميعًا يعيشون نشوة النصر؛ رغم توتّر علاقتهم بالشارع ومُؤسَّسات الدولة، ربما لأنهم كانوا يُضمرون ما يُوجب القلق ويعرفون أنه كافٍ لتمرُّد المصريين عليهم، وقد يعود الأمر فى نظرةٍ أعمق إلى تشظِّى هويّتهم كما رسمها تعريف «البنا» وعجزوا عن تحصيلها طوال تاريخهم، فكانوا دعوةً سلفية يحتقرها السلفيّون ولا يعدُّونها من صحيح الدين، ونزعةً صوفية يُؤمن ملايين المُتصوّفة أنها ابتداعٌ فى أمرهم، كما لا يُحبّهم أهل السياسة والرياضة والعلم والثقافة والاقتصاد، وإن نسبوا أنفسهم إليهم. اليوم يعود عيد الأضحى للمرة العاشرة وهم خارج المشهد تمامًا. الظاهر أن الشعب لفظهم وثار عليهم، بعدما بدا له أنهم ورمٌ فى الجسد وجمرةٌ تحت الثوب الجامع، والجوهر أنهم عجزوا عن ربط أنفسهم بالبلد والناس، ولم يكونوا عضوًا فاعلاً فى أى واحدةٍ من الساحات التى ألحقوا أنفسهم عليها. قد يطيب لهم تبسيط المُعضلة بادّعاء تعرُّضهم لخيانةٍ ومُؤامرات؛ لكن مشكلتهم الحقيقية فى فساد النشأة، وتهافت التعريف، وسوء النوايا وسواد العمل. إنها أزمة وجودية عميقة ولو أنكروا؛ وربما إلى اللحظة لم يستوعبوا أنهم فشلوا داخليًّا، قبل أن يختم السياق العام والانتفاضة العارمة على تجربتهم بالزوال.
أدمن الإخوان الرقص على كل الحبال، ولم يحسبوا أثر أن ترتخى تحت أقدامهم أو يتبدَّل الإيقاع. عاشوا عقودًا يزعمون أنهم «جماعة إصلاحية»، وقتما مارسوا العنف والاغتيال، وأشاعوا خطابات الأصوليّة المُتطرّفة، والتحقوا بأنظمة ومُخطّطات رجعيّة. ثم عندما سنحت الفرصة فى يناير 2011 قفزوا سريعًا من ضِفّة الرفض والتمنُّع إلى مُعسكر الثورة، وهتفت عناصرهم مع الهاتفين: «ثوّار أحرار هنكمّل المشوار»؛ فلم يكن التحوّل مقنعًا كما لم يكن ادعاء الإصلاح من قبل. قرأ الشارع التناقض وتركهم يمارسون لعبتهم، مُتوهّمين أنها تنطلى على الجميع. بينما كان التاريخ قبل الواقع شاخصًا يحمل الأدلّة والبراهين على أن الجماعة لا تعرف نفسها جيدًا، أو تعرف وتمارس الخديعة عن سبق إصرار، وهى لعبة محفوفة بالمخاطر والمُنزلقات، إلى درجة أنها قد تمنحك عدة جولات، حتى تُثير شهيَّتك للإيغال فيها إلى العمق؛ ثم تسلبك كل شىء فى الجولة الأخيرة.
لا وجه لإقامة حُجّة التوجّه الإصلاحى؛ وقد كانت الجماعة خزّانًا دائمًا لكل القيم البالية: عملوا مع الإنجليز والفرنسيين والألمان، وتآمروا على الحركة الوطنية، ووظّفوا الدين فى غَسل وجه الملك، وسعوا إلى إعادة الخلافة العثمانية الساقطة بكل ما فيها من تخلُّف وانحطاطٍ ونهبٍ مُنظّم، ومارسوا القتل والترويع وإحراق مُمتلكات الناس ومنتديات الثقافة والفنون، واتّخذوا مواقف مُنحطّة من النساء والأقلّيات. وبالمثل لا تصمد سرديّة الثورية أيضًا: سجدوا على أعتاب القصر، وتقرّبوا من رجال يوليو، وأبرموا صفقة سياسية ضد اليسار والناصريين، وأذعنوا لتفاهمات انتهازية مع نظام مبارك، واستغلوا تعديلات الدستور فى مارس 2011 لإبقاء هياكل السلطة القديمة طالما أنهم يستطيعون الوصول إليها. كانت الجماعة وحدها تلوك الشعارات فى كل محطَّةٍ بجرأةٍ تُطاول الوقاحة، وتنقلب عليها بفجاجةٍ كأنها تأمن غضب الواقع، وتحتكر دفاتر التاريخ، وتستطيع تصفير الذاكرة.
عندما قتلوا النقراشى والخازندار وأحمد ماهر، وأحرقوا السينمات وحارة اليهود، وهتفوا للملك ضد الوفد، وجابهوا النزعة الوطنية المُتنامية بخطابات دينية مُثبِّطة لا تصبُّ إلا فى صالح الاحتلال؛ لم يكونوا يُمارسون الإصلاح ولا الثورة من أىِّ وجهٍ. وعندما حاولوا اغتيال «عبدالناصر»، وتفجير القناطر الخيرية لإغراق الدلتا، وعملوا ضد مصر من عواصم إقليمية وعالمية؛ كانوا أبعد ما يكون عن الأمرين أيضًا، ثم عندما نصبوا كمينًا بالغزالى ومحمد عمارة ومُرشدهم مأمون الهضيبى أفضى لاحقًا لاغتيال فرج فودة، واخترقوا الأحزاب، وسرقوا أموال النقابات، وحاربوا الإبداع وحرّضوا على المُثقّفين والفنانين؛ لم يكونوا إصلاحيّين أو ثوريّين. حصيلة التاريخ القريب والبعيد تكثَّفت وأُعيد إنتاجها بعد يناير: تاجروا بالدين ومارسوا التكفير، تلاعبوا بالقوى والتيّارات السياسية، التفُّوا على الدولة وراوغوا المؤسَّسات، أقالوا رئيسة دار الأوبرا وعيّنوا وزيرًا تافهًا يكره الثقافة والمُبدعين، وهدَّدوا النُّخب وأهل الرأى، وتحرّشوا بالخصوم واعتدوا وقتلوا فى الشوارع علنًا، وعملوا مع الأعداء وباعوا مصالح البلد وأسراره. فى كل ذلك غابت الإصلاحية والثورية، وحضرت الانتهازية والأساليب الرخيصة، وصيغة التنظيم الذى لا يقف على أرضٍ ثابتة، ويريد ابتلاع كل الأراضى المُحيطة ومَن عليها.
افتقدت الجماعة إلى المرجعيّة الفكرة بالمعنى المنهجى الراسخ؛ لا على طريقة حسن البنا وارتجالاته الساذجة، وحينما أفرز لهم الزمن وجهًا قادرًا على التنظير، كان بختهم من عجينة نواياهم وما يليق بها.. عاد سيد قطب إلى أشدِّ مُرتكزات الحنبليّة تطرُّفًا، وسرق من «الندوى» واستعار من أبو الأعلى المودودى، فكان دستور الدم «معالم فى الطريق» القاعدة التى تأسَّست عليها رؤية التنظيم وحركته منذ ستينيات القرن الماضى حتى الآن. اضطلع المُتطرّف الإخوانى الأعظم بالتجربة الأولى بالأصالة، وناب عنه لاحقًا الجيل الثانى من القطبيِّين: الشاطر ومحمود عزت وآخرون. الكتاب على فجاجته كان تعبيرًا عن المُراوحة الإخوانية المُرتبكة بين كلِّ شىءٍ ونقيضه. هو يخاصم الدولة تحت لافتة صيغة الحكم؛ لكن غايته الفعلية أن تحلّ الجماعة بديلاً سلطويًّا عن أى غريم أو مُنافس، وانطلاقًا من «الحاكميّة» يُكفّر المجتمع ويُوجب قتاله؛ وبتبجُّحٍ وجهالة يعتبر الدم طريقًا إجباريّةً نحو السلم وإعادة بناء المجتمع، يُوحى بالإصلاح حينًا ويُجاهر بالثورة أغلب الوقت، وفى ذلك يستعير تصلُّب السَّلَف فى الأحكام ويتجاهل أصولهم عن الفتنة وذّمّ الخروج على الدولة، يعود إلى مفهوم «الجيل القرآنى» وانفراد النصّ المُقدّس بالتنشئة القويمة؛ لكنه يطرح نفسه والجماعة والحنابلة بديلاً فى التربية والتوجيه، يقدح فى الحضارة الغربية وانحطاطها بينما يستهلك مُنجزها، ثم يتحدث عن سقوط الجغرافيا أمام رابط العقيدة بين المسلمين على اختلاف بيئاتهم. لا يصمد الكتاب أمام مُساءلةٍ فكرية جادة؛ إلا أنه كان قادرًا على الصمود والرسوخ فى وعى الإخوان؛ لأنه يشبههم فى التناقض وفساد المنطق، ويُلبّى حاجةً عميقة فى نفوسهم إلى تمرير قالبهم التنظيمى المُشوّه، كما لو كان بناءً مُنضبطًا بالعقل والمنهج.
بالوصول إلى منتصف 2013 كانت الجماعة قد حرقت مراكبها، واستنفدت كلَّ الفُرص، على الأقل فى وجهها القطبى المُهيمن لخمسة عقود، مع ما تبقّى من تناقضات «البنا» الصارخة. المُؤكّد أن غليان الشارع وحركة «تمرّد» ثم الثورة الحاشدة بملايين المتظاهرين، تضافرت جميعًا لإزاحة الإخوان من واجهة المشهد، بعدما بدا أنهم نتوء قبيح فى الصورة وعبءٌ ثقيل على الجميع: الدولة والمجتمع والهوية والسياسة، وعلى أنفسهم أيضًا؛ إلا أن تلك الموجة الهادرة كانت هدمًا لبناءٍ شائخٍ انقضّت جدرانه وتشقَّقت أساساته، وكان محكومًا بالانهيار الحتمىّ بمعاول 30 يونيو أو من دونها. حرّرت الثورةُ شهادةَ الوفاة لتنظيم ميِّتٍ فعلاً، أو فى أخف التقديرات لأغلظ مراحله وأشدّها عُفونة. لم يعد مُمكنًا أن تستهلك الجماعة خطابات الإصلاح وقد انقلبت عليها، ولا أن ترفع شعارات الثورة وقد ارتدّت إلى أصلها فصيلاً رجعيًّا دمويًّا يكبش الماضى ويُلفّق الحاضر، وجسدًا منفوخًا لا يستند إلى ساقين ثابتتين، مسجونًا فى أوهامه، وغارقًا فى وحل الزبائنية والترصيص ضمن طوابير المُرتزقة والعملاء. كما لم يعد قادرًا على استعادة سيرته السلطوية وبنيته القديمة؛ وقد تعرّى القادةُ وكفرت القواعد. ربما يبحثون عن صيغة جديدة، أو ينقسمون على أنفسهم جماعاتٍ وشراذم يُفرّقها أكثر ممّا يجمعها، إلا أنها ستظل جميعًا على صداقتها الراسخة مع الفشل؛ لأنها لم تستوعب الدرس بعد. زرع حسن البنا المرض فى أصل الفكرة، وتربّت عليها الأجيال التالية حتى صار اعتقادًا ومنهج حياة. «الإخوان» جماعةٌ خارج العصر، تعادى الزمن وهو بدوره لا يُحبّها أيضًا، وطالما ظلّت ترقص على كل الحبال؛ فلن تجنى إلا تكرار السقوط، هنا أو على أى مسرح بديل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة