إن كانت ثمّة صيغة عصرية تُكافئ الأساطير السوداء وقصص الرعب القديمة فهى الثانوية العامة. لم تملك أية تجربة اجتماعية قدرة الفزع والإزعاج، وعبور الزمن والأجيال، كما تيسّر لتلك المرحلة، وكان يُفترض أن تبقى جسرًا عريضًا على طريق التربية والتأهيل وإعداد الكوادر، فأصبحت نزيفًا مفتوحًا للموارد والطاقات، والعافية النفسية للطلاب وأهلهم.
يقع جانب من المسؤولية على المنظومة، وجوانب تتحمّلها الأُسر التى كافحت طويلاً لإبقاء أوضاع مُختلة، وعاندت طُروحات تطويرها، ثم تباكت على مُخرجاتها بعدما تبيّن أنها ليست الأمثل، وكما استهلكت أعمارهم صغارًا تحاصرهم كبارًا، وتأكل امتداداتهم الاجتماعية وطموحاتهم المعرفية والاقتصادية مُمثّلة فى أبنائهم، وبدل أن يدفعوا لحرفها عن مسار مُنحرفٍ أصلاً، وضبط هياكلها وتحسين شروطها، يُنفقون ما تبقّى من أعصابهم ومداخيلهم لضمان وتحصين الإقامة داخل سجنها المُقبض. الوضع القائم لا يخدم أحدًا، والدولة تستشعر العبء وتتكلَّف فاتورته الباهظة، ولا أمل فى الإصلاح طالما لم يقتنع الآباء والأبناء معًا بأن «الثانوية العامة» لا يجب أن تكون سيفًا على الرقاب، ولا أن تستمر علاقة الغزل الدامية مع «بُعبع» فشل فى كل شىء، إلا إثارة الخوف وطحن المواهب والأعمار.
أيّام تفصلنا عن نتائج أحدث الجولات مع مفرمة الثانوية. سيبدأ المشهد بمُؤشِّرات رقمية لا تختلف كثيرًا عن السنوات الماضية، ولا فارق بين أن يسوقها رضا حجازى اليوم، أو طارق شوقى والهلالى الشربينى حتى حسين كامل بهاء الدين سابقًا، ثم يتبعها عرض الحصيلة الكاملة ومعها وفرة المشاعر المتناقضة: مَن حقَّقوا المأمول لكنهم بعيدون عن غاياتهم الجامعية، ومن أخفقوا وينتظرون تصاريف مكتب التنسيق، ومن يستعدون لحرب طويلة مع التعليم الخاص وأعبائه. قلَّة من الطلاب وذويهم يخرجون راضين، والأغلبية لا يُحصِّلون ما يُوازى سنوات الاستعداد وشهور التوتّر والهَدر المالى، والغريب أن ما يجمعهم فى الأخير هو التصالح على الحالة، والإخلاص لإبقائها ودفع مزيد من الأجيال لطاحونتها الهائجة. هذا القبول الضمنى والمُعلَن يُعطّل مساعى التطوّر، ويُقوّض الخطط والبرامج الرامية لضبط الاختلالات، مهما كانت مُتوافرة وقادرة على الصمود. كأن المصريين باتوا مقتنعين بأن يُوظّف التعليم أداةً صراعيّة مع الواقع والمستقبل، وأن يتحوّل من البناء للهدم، ومن الديناميكية للتجميد، وتصبح كل غايته استمرار آلية الفرز الطبقى وتحصيل مراكز اجتماعية ومعنوية وهمية، تُغلّفها شهادات ونوعيّات دراسة لا تناسب السوق، كما لم تعد صالحة للتمايز بالمُؤهّلات والألقاب.
منظومة التعليم، والثانوية بالخصوص، أكثر ما خضع لتجارب وتعديلات طيلة عقود، فُرض الصف السادس الابتدائى وأُلغى مرَّات، وكذلك الثانوية بين العام والعامين والتحسين وغيرها.. فى كلّ المحطَّات تبدَّلت المُقدّمات ولم تتغيّر النتائج، ما يؤكد أن المشكلة تخص الفكر وانحيازات المجتمع وغايته من التعليم. كانت المدارس والجامعات قديمًا المسار الوحيد للترقِّى الاجتماعى والانتقال الطبقى؛ لكن قوانين الاقتصاد والعمل تغيّرت، وبات النجاح مُرتبطًا بالأثر النوعى والقيمة المُضافة، وهما قابلان للتحقُّق بالتعلُّم أو غيره. حتى الآن يُخلص أولياء الأمور إلى ما عرفوه ووجدوا عليه آباءهم، ويسعون لحشر أولادهم فى مسارات بعينها، انطلاقًا من تصوُّرات ماضويّة غير دقيقة عن أنها الممرَّات الذهبية للشُّغل والثراء والمكانة. الخروج من الخندق يحتاج نشاطًا تربويًّا للعائلات قبل الدارسين، وجهدًا اجتماعيًّا وتثقيفيًّا لتحديث الرؤى وتصويب الأفكار البائدة وغير الدقيقة، التى لم تعد صالحة أو مُناسبة للواقع الجديد. الثابت أن الخبرات القاسية مع الدراسة والدروس والامتحانات والنتائج ومكاتب التنسيق، ليست كافيةً رغم ضغوطها لإنجاز المهمّة، ولا نداءات الحكومة والمُستثمرين وإعلانات الوظائف الشاغرة أيضًا، والحل يبدأ من الإعلام والدراما ومناهج السنوات الأساسية، وربما يحتاج تحرُّكًا من الوزارات المعنيّة بالتوعية ومُخاطبة الجمهور، أو تنظيم دورات تثقيف إلزامية للأهل منذ التحاق أطفالهم بالمدارس وعلى امتداد الرحلة.
أكثر مشاهد الثانوية تعبيًرا وإزعاجًا، اصطفاف الآباء والأمهات أمام اللجان فى انتظار خروج الأبناء باكين أو مُكلَّلين بالفرحة والنصر. يشبه المشهد ترصُّص الجمهور فى استقبال العائدين من الحرب، وفى ذلك عبء يفوق طاقة الصغار على احتمال منطق التعلُّم والاختبار؛ إذ تتحوّل الفصول ميدان معركة، وأولياء الأمور ظهيرًا شعبيًّا، وأوراق الأسئلة موضوعًا للنزاع، وبالتبعية تصبح وزارة التعليم ومُراقبوها وواضعو الامتحانات خصومًا. فى المعارك لا يقبل المتحاربون إلا بالنصر، وعلى شروط يعتبرون ما عداها هزيمة وانكسارًا، وبالضرورة تُولّد الهزائم نقمةً ومرارةً وتجاوبًا أقل فاعلية مع الجديد.. المطلوب أن يتحرَّر الأهل من الثنائية الصراعية المُغلقة، بين رغبة اقتناص كل شىء أو الشعور بالخسارة الكاملة، وذلك ليتحرّر الطلاب أنفسهم من وهم أن حياتهم كلها تُرسَم وتُغلَق دفاترها هنا؛ لأن ذلك كفيل بتعطيل مسارهم، وضرب اتّزانهم النفسى والعقلى، وحرمانهم من أخصب سنوات بناء الشخصية واستكمال المعارف والخبرات. ربّما لهذا يتخرّج أغلب الجامعيين بأعمارٍ عقلية لا تتجاوز ما كان فى الثانوية؛ لأن الزمن مضى بأجسادهم لمُدرّجات الجامعة، وبقيت أرواحهم حبيسةَ فصول المدرسة وما حُشيت به أدمغتهم من أوهام وضلالات.
الكلام الذى قد لا يُعجب الأُسر الطيّبة، أن الخلل قديم وتربّوا عليه جميعًا؛ حتى باتوا لا يرون له بديلاً.. لعلّ الأمر يعود لنيَّة نظام ثورة يوليو الحسنة، وما نتج عنها من توسُّع جامعى بمعزل عن الاقتصاد وسوق العمل، أو أن الوضع وقتها كان يسمح بهكذا مُعادلة. ركض المجتمع ولاحقته الجامعات، ولم تُواكبهم ماكينة التنمية والتحديث؛ فتضخّم التعليم وضمُرت المعرفة، وتزايد الأفندية بطبعةٍ مُقولَبة، ونَفَر الجميع من الحِرَف البسيطة والمهارات اليدوية. عندما استعاد الاقتصاد رُشدَه لاحقًا، وجد الحسبة مُختلّة: ملايين من دون مهارات يسعون للأوراق والمكاتب، ومصانع وورش وأنشطة مُستحدَثة تبحث عن سواعد غائبة. الآن تمضى الأمور ببطء ناحية التصويب، عبر شبكة عريضة من أنظمة التعليم، بمدارس فنية ومهنية وجامعات تكنولوجية وبرامج تأهيل وتدريب، لكن عقل المجتمع ما يزال مُقيمًا فى حديقة يوليو وأشجارها المُهندمة، وفى خيالٍ قديم عن الطرابيش والملابس الرسمية ووظائف الدوام اليومى المُريحة، قليلة الجهد ثابتة المزايا ومُعدومة الطموح. المشكلة أن البلد لم يعد مُحتاجًا لتلك الأدوار بكثافة، كما لم يعد قادرًا على تلبية طلبها المرتفع من راغبى القولبة الاجتماعية.
دخلت ثورة يوليو للتعليم من باب التساوى لا الكفاءة؛ فاهتمت بالكّمّ مقابل الكيف، وبأن يكون المسار للشهادات العُليا مُحصّنًا بأيسر الطُرق الضامنة للمساواة والبعيدة عن الطعن. حتى الآن لا ترى الأغلبية بديلاً لنظام «مكتب التنسيق» فى تسكين الجامعات، رغم أنه ليس الأفضل ولا الأجدى، من زاوية اكتشاف السمات الشخصية والتوجيه السليم وفق القدرة والجاهزية، كما أنه ليس عادلاً فى عمقه، إذا نظرنا للعدل بوصفه قيمةً غرضها الاستثمار الأمثل للمواهب بتنحية الظروف الطارئة. قد يكون الطالب مُؤهّلاً لدراسة الفنون مثلاً لكن سنة الثانوية وعوارضها حرمته المجموع المطلوب.
إن اشتراط بعض المجالات خوض اختبار قدرات حتى لو حصّل الطلاب درجة الالتحاق؛ ربما يُشير لنموذج واجب التطبيق بقدر من التطوير، أى أن يُنحَّى عامل الجدارة الرقمية فى امتحان الثانوية لصالح الكفاءة العقلية والنفسية، ويكون البديل توجيه الدارسين عبر دورات ومقابلات، يُضمن لها أعلى مستويات التكافؤ والحصانة والإعداد الدقيق وفق معايير علمية وعمليّة مُنضبطة. حصيلة المُخرجات النهائية تُشير لخللٍ حقيقى، كثيرون يدرسون أمورًا لا يُحبّونها فيتخرَّجون باهتين ولا يُحرزون نجاحًا مهنيًّا، وأكثر منهم يعملون فى غير ما درسوه، وذلك إهدار مزدوج: أنهم حُرموا من تعلُّم ما يُناسبهم، وحَرموا غيرهم من فُرصٍ ربما كانوا أجدر بها وأنفع لأنفسهم والمجتمع.
فى مرحلة سابقة، تولّت الدولة كل شىء تقريبًا بالوكالة عن الناس، نشأت تصوّرات غير دقيقة وتسيَّدت ولم تعد قابلة للمُساءلة. كان المُعتاد أن تُوجّه المنظومة آلاف الدارسين لمجالات بعينها؛ ثم تستقبلهم لاحقًا بوظائف «التكليف». مع تراجع ضمانة التوظيف لكل القطاعات تباعًا، بات عبء العمل واقعًا على كل فرد، ولا تكفى الدراسة وحدها للفوز بالفرصة، إنما يتطلَّب الأمر جاهزية شخصية وإعدادًا معرفيًّا واستكمالا لأدوات المنافسة الساخنة فى سوق مُزدحمة.
رغم كل التغيُّرات الطارئة وما تأسَّس عليها لعقود فى الاقتصاد، واستحداث أنشطة إنتاجية وخدمية أكثر تطوّرًا، ما يزال المجتمع يستهلك محفوظاته القديمة عن عناصر القوة البشرية وسلالم الترقّى والعبور. حتى الآن تتحدَّث الأغلبية عن «كليات قمّة» لم يعد لأغلبها سوى الاسم والسُّمعة؛ بينما تحوّلت القمّة والفاعلية لمجالات تخص الصناعة والتجارة والرقمنة والبرمجة والإبداع وإنتاج المحتوى. الثانوية بوضعها القديم/ المُستمر، لم تعد صالحةً ولا تملك الإجابات المُقنعة عن أسئلة الراهن، والآباء لا يتجاهلون فقط حاجتهم للبحث فى مناهج أخرى؛ إنما يستميتون لفرض امتحانٍ دائم من المُقرَّرات القديمة، رغم ثبوت أن الدرجة النهائية فيه لم تعد كافيةً ولا ضامنة لإحراز النجاح فى الحياة.
كان التعليم قديمًا آليَّةً لخلق الفرص، ومن ورائها يأتى الفرز والاستعلاء والتمايز الطبقى، وبعدما تغيّر العالم لم تعد الجامعات تصنع الفُرص فعليًّا؛ لكن بقيت رواسب التعالى والمُباهاة حتى مع خفوت المزايا واهتزاز المكانة. يتكرَّر سنويًّا فى مناسبة إعلان النتائج أن تنفجر منصَّات التواصل بحالة تفاخر سطحية بين أجيال عبرت الثانوية قبل سنوات، يتحدّث كلٌّ منهم عن ذكرياته وتفوّقه ورحلته الجامعية تحت لافتة القمّة، والمفارقة أن كثيرين منهم لم يتحقّقوا مهنيًّا، أو تحوَّل مسارهم لوظائف غير دراستهم. الحالة فى عُمقها أقرب للتعويض النفسى، واستدعاء «وهم المكانة» من الماضى دليل افتقادها فى الحاضر. كأن الجميع، من تجاوزوا المحطّة أو يستقلّون القطار، يُناضلون لاستبقاء منظومة مُختلّة بغرض الشعور بنجاح مُزيَّف أو غير كامل؛ بينما قد يكون الارتباك ضمن منظومة ناجحة وقويمة أفضل وأعمق أثرًا. يطيب للمُؤدلَجين دائمًا اتّهام الدولة بحراسة الرجعية؛ لكن فى «التعليم» يقف المجتمع على أطراف أصابعه دفاعًا عن المناخ الملوث وقوانينه البالية، بينما من صالح الدولة وما تسعى إليه فعلاً أن يتطوّر التعليم؛ ليُواكب الاحتياجات الناشئة، بدلاً من حصره فى زاوية الإشباع الكاذب لأوهام الطبقية وطموحات البرجوازية القديمة.
فى كل محاولات التطوير كانت المُعارضة من الأهل. المنطق أن الطلاب لم يختبروا التجربة، ولا مرجعيّة لديهم للقياس؛ ومن ثمّ ليس منطقيًّا أن يعترضوا على ما يجهلونه. الحادث أن الأهل يرفضون مغادرة ماضيهم، ويسعون لإنتاج أبنائهم كما أنتجهم آباؤهم. هكذا كان الكبار «معول هدم» التجارب قبل بدايتها، والأكثر صياحًا بشأن المناهج ونُظم المدارس وأشكال الامتحان. أعلنوا ضيقهم من الحفظ لكنهم رفضوا التحوّل لقياس الفهم والاستيعاب، ضجّوا من إرهاق الدروس الخصوصية ثم حاربوا المُقرَّرات والأسئلة التى تُحجّمها، وما يزالون يقطعون من أقواتهم ويحجزون فى «السناتر» قبل شهور من الدراسة. كأنهم يُغنّون فى محنتهم «أحبّه مهما أشوف منه» دون رغبة حقيقية فى التعبير عن المحبة بطرق أكثر نضجًا. إذا كان الكبار مُغرمين بقولبة الحاضر؛ لفرض وصفتهم على المستقبل، فيجب ألا تُترك الحالة رهن تجاربهم الرثّة وأُفقهم المُغلق. يحتاج التعليم للتطوير، ومنه إعادة صياغة منظومة الثانوية بكاملها فى المداخل والمُخرجات. مستوى الخرِّيجين ليس كما نأمل ونحتاج، ونوعيّاتهم أيضًا، ومع انفلات الزيادة السكانية فلن تقدر السوق المحلية على الاستيعاب، وتصدير العمالة يتطلَّب إعدادًا نوعيًّا للمنافسة فى سوق عالمية شرسة.
بإعلان النتيجة خلال أيام، ستتكرّر مشاهد الفرحة والأسى، سيشعر فريق بالإنجاز ويُحبَط فريق، بينما الحياة تتسع لهم جميعًا على قدم المساواة. يحقّ للمُتفوّقين أن يفرحوا، ونُهنئهم، حتى لو كان التفوّق فى منافسة غير مثالية؛ إذ لم يضعوا شروط التسابق ولا ذنب لهم فى بطء التحديث وعبادة الأهل للماضى؛ لكن حصيلة النتائج المُرتقبة تُضاف لسوابقها، وتُجدّد الحاجة للحديث عن تطوير المنظومة، وضرورة البحث عن العدالة لا المساواة، والالتفات لبرامج مُهمّة استحدثتها الجامعات التكنولوجية والأهلية والتعليم الفنى، واستكمال الخريطة العصرية بالتوسُّع نحو الرقمنة ومُستحدثات التجارة والتصنيع. أقمنا طويلاً مع «بُعبع الثانوية» وحان وقت التعافى منه، وأن يُصبح موسمًا لاكتشاف المواهب والطاقات، وعيدًا للانتقال من الطفولة للشباب، ومناسبة فرح فى البيوت بالإنجاز الإنسانى الأهم، عبر إنتاج أبناء ينتمون للواقع لا لأوهام ذويهم، ويُقبلون على الحياة بشروطها، ويُحرزون النجاح بكل الصور المُمكنة، وهى أثرى وأكثر تنوّعًا وألوانًا ممّا عاشه الكبار، ويتشدّدون فى فرضه على الحاضر والمستقبل.