تعيش ليبيا مرحلة دقيقة في تاريخها السياسي عقب فشل إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ديسمبر 2021 بسبب القوة القاهرة التي أعلنت عنها المفوضية العليا للانتخابات في طرابلس، وتسببت شخصيات سياسية وتنفيذية في عرقلة إنجاز العملية الانتخابية لاستفادتها من الوضع الراهن الذي تحقق من خلاله مكاسب مالية كبيرة.
الأمم المتحدة التي يتمثل دورها في التوسط وتيسير العملية السياسية بين الأطراف الليبية باتت جزء من الأزمة بتدخلاتها ومحاولة فرض رؤى وأفكار الدول الكبرى التي تسعى لترسيخ نفوذها الاستراتيجي والسياسي داخل ليبيا، وذلك في إطار الصراع على كعكة النفط والغاز داخل الأراضي الليبية لتوفير إمدادات الطاقة إلى القارة الأوروبية في ظل الصراع الدولي المستمر بين روسيا من جهة والمعسكر الغربي من جهة أخرى.
ليبيا تعد ضحية للمراحل الانتقالية ولاتفاقات سياسية خارجية يدفع فاتورتها الشعب الليبي المسكين، التدخلات الأجنبية في البلاد سواء عسكريا في 2011 بتدمير قدرات الدولة الليبية وجيشها، أو التدخلات السياسية التي تسببت في استمرار المراحل الانتقالية لفترة طويلة وعدم قدرة الليبيين على إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في البلاد.
لغير المتابعين للمشهد الليبي سنتحدث باختصار حول التطورات السياسية والعسكرية التي جرت في البلاد عقب الإعلان عن وقف إطلاق النار في جنيف أكتوبر 2020، حيث شرعت الأمم المتحدة استنادا لمخرجات مؤتمر برلين الدولي حول ليبيا في التحرك عبر ثلاثة مسارات أولها المسار العسكري بتشكيل لجنة "5+5" التي تضم ضباط من المنطقتين الشرقية والغربية بهدف الحفاظ على التهدئة وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب وتوحيد مؤسسة الجيش وحل الميليشيات، ورغم الاجتماعات المكثفة والمخرجات التي تصدر عن اجتماعات اللجنة إلا انها عاجزة على تفعيل كافة البنود التي تتمسك بها ومنها إخراج جميع المقاتلين الأجانب لإرساء السيادة الوطنية في البلاد، فضلا عن عدم قدرتها على حل الميليشيات والتشكيلات المسلحة التي تتمتع بنفوذ واسع وكبير في المنطقة الغربية.
أما المسار السياسي فتحركت المبعوثة الأممية السابقة لدى ليبيا الأمريكية ستيفاني وليامز لتشكيل لجنة حوار سياسي تضم 75 شخصية دون الإعلان عن المعايير التي استندت إليها البعثة لتشكيل هذه اللجنة، وأفرزت اللجنة عقب سلسلة اجتماعات في جنيف مطلع 2021 سلطة تنفيذية مهمتها الرئيسية إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في ديسمبر 2021، إلا أن حكومة الوحدة منتهية الولاية كانت عائقا في طريق الانتخابات حيث تخطط للبقاء المشهد السياسي لأطول فترة ممكنة، ويبقى المسار الاقتصادي أحد أبرز المسارات التي تسعى الأطراف الليبية لتفعيله باعتبار أن الصراع جزء كبير منه على عائدات بيع الثروة النفطية.
فشل ملتقى الحوار السياسي الليبي في إلزام حكومة الوحدة بإجراء الانتخابات أو وضع بند يدفع نحو تشكيل حكومة جديدة حال فشل إجراء الانتخابات شجع حكومة الوحدة على التمادي في الخروقات، وساعدت الرغبة الدولية حكومة الوحدة منتهية الولاية بمنحها الشرعية رغم سحب الثقة منها بواسطة مجلس النواب الليبي في سبتمبر 2021، لكن المصالح التي ترتبط بها القوى الدولية الكبرى مع حكومة الوحدة دفعها لمنح الأخيرة شرعية دولية أملا في تحقيق مكاسب اقتصادية ومالية أكبر من الجانب الليبي سواء في مشروعات بعينها أو صفقات يتم الاتفاق عليها بين هذه الدول وحكومة الوحدة.
ورغم نجاح الأطراف الليبية في تحقيق توافق بين مجلسي النواب والأعلى للدولة بوضع خارطة طريق جديدة تتضمن بندا بضرورة تشكيل حكومة جديدة تكون مهمتها الرئيسية إجراء الانتخابات إلا أن القوى الدولية التي تسببت في تعقيد المشهد السياسي ومن خلفها البعثة الأممية يرغبون في استنساخ فكرة "ملتقى الحوار السياسي" من خلال ترويج المبعوث الأممي لدى ليبيا عبد الله باتيلي لفكرة تشكيل "لجنة رفيعة المستوى" تتولى الترتيب للانتخابات، متجاهلا التوافق الليبي الذي يتم لأول مرة على أسس وطنية بعيدا عن الإملاءات الخارجية.
يمثل اجتماع بنغازي الأخير بين رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، رئيس مجلس النواب الليبي المستشار عقيلة صالح، القائد العام للجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، رسالة مباشرة وواضحة من القوى الوطنية السياسية والعسكرية الفاعلة في برقة إلى الأطراف الدولية والبعثة الأممية بتمسك هذه المكونات بالحل الليبي – الليبي بعيدا عن التدخلات الخارجية، والتمسك بالثوابت الوطنية للمشاركة في أي حوار وطني أو سياسي يتم الدعوة إليه بحيث تكون هذه الدعوة ليبية خالصة وبأفكار ورؤى وطنية بعيدا عن الأطروحات المعلبة التي تلجأ إليها الدول المستفيدة من استمرار الفوضى وغياب دولة المؤسسات في ليبيا.
السبب الرئيسي لتعقيد المشهد السياسي والعسكري في ليبيا هو التدخلات الخارجية وعدم فهم القوى الدولية لتركيبة الشعب الليبي الذي لا يقبل بأي تدخل خارجي أو محاولة فرض إملاءات وأفكار لخدمة أجندات خاصة، يجب أن يدرك المجتمع الدولي أن جلوس الليبيين داخل بلادهم وعلى طاولة واحدة يمكن أن يحقق التوافق الوطني لحل الأزمة شريطة ألا تعبث الأطراف الخارجية بالمشهد العسكري عبر تحريك التشكيلات والميليشيات المسلحة التابعة لها لخلق واقع سياسي جديد في البلاد وعرقلة أي توافق داخلي بين الليبيين.
أحد أبرز المسارات التي يجب أن تعمل عليها القوى المحلية الليبية بدعم من الأمم المتحدة هو تفعيل ما يتم الاتفاق عليه في المسار العسكري باعتباره قاطرة الحل السياسي للأزمة التي تعصف بالبلاد منذ عام 2011، ويعد إجراء الانتخابات تحدي صعب على الليبيين في ظل انتشار قوات أجنبية ومرتزقة وميليشيات مسلحة تقاتل من أجل المال دون النظر إلا المصلحة الوطنية، وهو ما يتطلب ضرورة التحرك سريعا لتوحيد المؤسسة العسكرية وإيجاد حل لمشكلة الميليشيات قبيل التفكير في إجراء انتخابات حرة ونزيهة في البلاد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة