أتفهم طبعًا حجم العائد الذى تحصده الفضائيات من وراء البرامج الطبية الإعلانية، وأعرف أن بعض الأطباء الذين يسعون للشهرة السريعة يهرولون نحو هذا النوع من البرامج للوصول مباشرة إلى «الزبائن»، عفوًا أقصد «المرضى»، لكن ما لا أستطيع أن أفهمه هو مستوى الرقابة الطبية من وزارة الصحة على المحتوى الطبى والعلاجى الذى يقدمه الأطباء على الشاشة ليلا ونهارا.
كان الإعلام يعمل فى الماضى لخدمة الناس طبيًا، بالمعرفة والمعلومات والنصائح الطبية والوقائية، لم نكن نعرف من قبل هذا النوع من «فاترينات» الأطباء على الهواء مباشرة، كنا نلجأ لكبار الأطباء والأساتذة المتخصصين من علماء الجامعات المصرية، نعرف أنهم ليسوا أطباء فحسب، ولكنهم خبراء قضوا سنوات طويلة فى العلم والدراسة وفى إعداد رسائل الماجستير والدكتوراة، والمشاركة فى المؤتمرات العلمية الدولية، والعمل كأعضاء هيئة تدريس، والاطلاع على الحركة العلمية الطبية فى العالم، وكانت القاعدة هى أن نتيح الفرصة للآراء العلمية المختلفة، ونناقش الأطباء فى التفاصيل، أما فى حالة هذه البرامج فالدكتور هو من يدفع ثمن «الهوا» وهو من يدفع راتب «المذيع أو المذيعة» فى بعض الحالات، وهو ما تنتفى معه روح الخدمة الخالصة لوجه الله والناس، وهو ما يشق فيه على المذيع أو المذيعة أن يجادل أو يناقش أو يعرض فكرة تختلف مع أفكار الطبيب الذى يتحدث على الهواء «بفلوسه».
مرة أخرى أكرر أننى أتفهم وضعية هذه البرامج كمصدر دخل مهم فى الفضائيات، لكن ما أرجوه هو أن تلتزم المحطات التليفزيونية بمعايير تحترم فيها الناس، ولا تترك فيها المشاهد نهبًا لأطباء «الفاترينات الفضائية» بلا رقيب، فعلى الأقل ينبغى أن تكتب الفضائيات فى مكان بارز على الشاشة تنويهًا واضحًا بأن «هذا البرنامج إعلانى ومدفوع من الطبيب أو من المستشفى أو من العيادة التى اشترت هذه المساحة الزمنية»، هذا أبسط حقوق الناس.
كما ينبغى أيضًا أن يكون محتوى هذه البرامج محل مراجعة طبية وعلمية من كوادر علمية متخصصة، وليس من أصحاب العيادات والمستشفيات الخاصة الذين يقدمون محتوى يخدم أغراضهم التسويقية، أكثر مما يخدم الناس طبيًا وعلميًا، وربما يكون من الأفضل أن تختار المحطة التى تذيع هذا النوع من البرامج بنفسها مقدم الحلقات، وتسمح له «بالاتفاق مع المعلنين إن شاءت»، بنقاش حقيقى وعلمى، وبأسئلة تفتح باب التفكير لدى المشاهد، لأن الدور الذى يلعبه مقدمو هذه البرامج الآن لا يخرج عن كونه مساندة للدكتور المعلن وانبهارًا بكلامه وتعليقاته لاستكمال طبيعة الدور التسويقى، وهذا عيب كبير على الجميع.
الإعلان ليس عيبًا فى ذاته.
لكن الإعلان بهذه الطريقة يمكن أن يشكل خداعًا للناس..
وينقلنا من مرحلة العيب إلى مرحلة الجريمة.
تحياتى.
مصر من وراء القصد
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة