سبعة عشر يومًا كاملة انقضت على إعلان المقاطعة العربية لقطر، لم تصدر خلالها أيّة بادرة طيّبة من الإمارة، أو إشارة إلى تدارك الملاحظات سعيًا لتمهيد أرضية صالحة للتوافق، بل على العكس سار تميم بن حمد فى مسار أقرب إلى التصعيد، بإعلان القصر الأميرى تفاصيل اتصال هاتفى من الرئيس الإيرانى حسن روحانى، تضمّن رسائل ساخنة بدا أنها تستهدف رفع حرارة المشهد، رافقتها تصريحات من مسؤولين قطريين عن مظلومية الدوحة وسلامة موقفها وبراءتها من دعم الإرهاب، فى رسائل إنشائية لا منطق فيها ولا دليل. وكان التطوّر الأكثر خشونة مع تدفُّق الدفعات الأولى من الجيش التركى والحرس الثورى الإيرانى على أراضى الإمارة، وكأنّه إعلان حرب على المحيط العربى ومصالحه!
لم تقرأ الدوحة تطوّرات المشهد، وإشارات الأشقاء التى انتهت إلى قرار المقاطعة بعد شهور وسنوات من تجاوزات الإمارة، سواء فى حكم حمد بن خليفة أو ابنه تميم، ويبدو أنها تعاملت بمنطق الأخ الصغير مغفور الذنب، وتخيَّلت أن دول المنطقة لن تتجاوز مرحلة النقد والاستهجان إلى اتخاذ قرار جاد، وأنها ربما تُضحّى بمصالحها، وتتجاهل المخاطر والتهديدات التى تتسبّب فيها الإمارة، أو تشارك فى صنعها، تقديرًا لأنها اختراق لقانون البيت من أحد ساكنيه، دون اعتبار لأن الانحياز إلى الجيران أو الأعداء قد يُخرِج شخصًا من عِداد العائلة إلى معسكر الخصوم، حتى لو كان طفلاً صغيرًا أو كيانًا ضئيلاً.
المهم أن مُكابرة الإمارة ومحدودية رؤيتها، منعتا أميرها ورجاله من استيعاب الظرف السياسى الاستثنائى فى سياقه، والاشتباك بفاعليّة مع آثاره ومُسبِّباته. صدر قرار المقاطعة فجر 5 يونيو مصحوبًا بحزمة إجراءات واسعة، شملت إغلاق المنافذ والمطارات، ومنع تحليق الطيران القطرى فى أجواء الرباعى العربى (مصر والسعودية والإمارات والبحرين)، وفرض تدابير خاصة على إقامة وانتقالات المواطنين بين الدول الأربع، والأهم إنهاء مشاركة القوات القطرية ضمن التحالف العربى فى اليمن، ووصل الأمر إلى القطاع الرياضى والمؤسّسات ذات الطابع الاجتماعى، بإعلان نادى الأهلى السعودى فسخ عقد الرعاية مع الخطوط الجوية القطرية. وترافق ذلك مع اهتزاز قاسٍ لقطاعات النقل والطاقة والبنوك فى الإمارة، وخسارة البورصة 8% من قيمتها السوقية، بما يتجاوز 60 مليار ريال قطرى (16 مليار دولار تقريبا).
كانت كلُّ نقطة فى تلك التطورات كفيلةً بإجبار قطر على التوقّف والتفكير، لو كانت تملك هيكلاً مؤسَّسيًّا وإدارة تنفيذية حصيفة وذات مسؤوليات وصلاحيات، لكن الإمارة المُستلَبة لصالح رؤية فردية يُعلنها الأمير، ويأتى جانب كبير منها جاهزًا من وراء الحدود، لم تلحظ أن اقتصادها الضخم لا يستند إلى قواعد راسخة، وأنه عُرضة لاختلالات عميقة حال مواجهة أية إجراءات استثنائية، حتى لو أقرّتها أطراف خارج الإمارة ومؤسّساتها، ولم تستشعر كذلك أن ارتماءها فى أحضان الأتراك والإيرانيين كان السبب الأبرز وراء الأزمة، ولن يكون من الرُّشد مواصلة الارتماء، أو مكايدة الأشقاء بتعزيز الروابط مع أنقرة وطهران، والأفدح أن نظرتها القاصرة لم تربط إنهاء عمل بعثتها العسكرية فى اليمن، بتجاوزات جنودها ودعمهم اللوجستى والمعلوماتى لميليشيات الحوثيين، فتعاملت كما لو أن السرّ مستور، وأن علاقتها بالإرهاب والعنف المسلح فى المنطقة مجرد شائعات أو ادعاءات. مضت الإمارة هكذا بإصرار، ولا تعلم أنها كالنعامة التى دفنت رأسها فى الرمل!
دوران الاقتصاد القطرى وفق منظومة ريعيّة، عمادها موارد الغاز الخام ومُشتقّات البتروكيماويات، كان يُرجّح للوهلة الأولى محدودية تأثير المقاطعة العربية على مؤشرات الاقتصاد الكلّى فى الدوحة، لكن فى عمق المشهد كانت التفاعلات مختلفة كثيرًا عن هذا التصوّر، فالاستثمارات المُباشرة داخل الإمارة أغلبها من دول مجلس التعاون الخليجى، خاصة الدول المقاطعة، ومصارفها مرتبطة بعلاقات وطيدة وشاملة مع بنوك مصر والسعودية والإمارات، وأكثر من 80% من وارداتها المختلفة (الغذاء والسلع الترفيهية ومواد البناء والسيارات والأجهزة وغيرها) تتدفّق من معبر «سلوى» البرى مع المملكة، بينما تضرَّرت صادرات الغاز نفسها فى الشهور الأولى، بعد تصريح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب من البيت الأبيض، فى ثانى أيام المقاطعة، بأن قطر تدعم الإرهاب ويجب اتّخاذ مواقف جادة من تلك الممارسات، ما دفع شركات كبرى لتقليص وارداتها من الدوحة، والتحفُّظ فى توقيع عقود آجلة، حتى تتكشّف لها خريطة الأحداث وتفاعلاتها المستقبلية.
الراجح ضمن احتمالات تعاطى قطر الردىء مع المشهد، أنها تخيَّلت التصعيد العربى موقفًا عارضًا كمواقف سابقة، أبرزها سحب السعودية والإمارات والبحرين سفراءها من الدوحة فى مارس 2014، على خلفية اختراق الإمارة لمُقرّرات وثيقة الرياض 2013 وملحقها التكميلى فى العام التالى، وأنه يمكن تجاوز آثار تلك السخونة الطارئة بالمُماطلة، ومدّ زمن المشهد بُغية الوصول إلى تجميد مكوّناته وحصار تفاعلاتها فى حيِّز الرتابة، على أن يتكفَّل الاعتياد بتذويب الموقف العربى الجديد، كما حدث مع سوابقه، لكن ثبت خطأ الدوحة وسوء تقديرها للظرف الاستثنائى مُجدّدًا، مع تنامى سخونة الملف وانفتاحه وتطاير أوراقه يومًا بعد يوم، إلى أن فوجئت بقائمة مطالب عربية تشتمل على 13 بندًا فى 22 يونيو، لتقتنع للمرة الأولى أنها تواجه ظرفًا مُغايرًا لكلّ ما سبق، وأن مناوراتها قد لا تفلح فى احتوائه، كما أن حلفاءها الجدد لن يسمحوا لها بالارتداد عن الطريق التى رسموها، وهنا تأكَّدت الإمارة الصغيرة أنها فى ورطة حقيقية، وأيقنت بدخولها لعبة صعبة لا قِبَل لها بها، فكانت أمام خيارين أحلاهما مُرّ: العودة كطفل مُعتذر يطلب الصفح من الأشقاء، أو مواصلة الصراع من ضفّة الخصوم. ومُجدّدًا انحازت إلى الخيار الأسوأ، ولم تلحظ ما تُخبّئه لها الأيام، وما تحمله الرياح الآتية من بلاد الأتراك والفُرس!