مع وصول الإخوان للحُكم فى مصر، صيف العام 2012، هرولت قطر لاحتضان الجماعة وتغذية مشروعها بالإمكانات اللازمة لاختطاف أكبر الدول العربية. بدأ الأمر فى ولاية حمد بن خليفة، واحتدم مع ابنه «تميم»، الذى اعتلى عرش الإمارة قبل ثورة 30 يونيو بخمسة أيام، فورَّطه غُرور القوة الناتج عن المُراهقة وانعدام الخبرة وحداثة العهد بالسُّلطة، فى اتّخاذ مواقف عدائية صريحة من الدولة المصرية، مدفوعًا بوَهم القُدرة على عصمة الإخوان من السقوط، أو التلاعب بدولة كبيرة من خلال عَرشٍ وَثيرٍ يستقرّ فوق خزّان غاز!
حَظِى المشروع الإخوانى فى مصر بدعمٍ مُباشر من أنقرة وطهران، الأولى باعتبارها جناحًا للجماعة من خلال حزب العدالة والتنمية الذى يتزعَّمه أردوغان، والثانية تستهدف تفكيك مركزية الانتماء العربى، ولا تجد مدخلًا لذلك إلّا من بوّابة تغذية النزعة الدينية، على أمل ركوبها أو ضربها من داخلها. هذا الدعم كان السبب المُباشر فى دخول قطر على خطّ مساندة الإخوان، بتوجيهات مباشرة من تركيا وإيران، لكن رغم انطلاق الدوحة من أرضية التبعية واللعب بالوكالة، فقد تخيَّلت الإمارة الصغيرة أن بإمكانها أن تكون رقمًا صعبًا فى المشهد المصرى، حال نجاحها فى استقطاب الجماعة وتحويل ولائها إلى الدوحة، وكان «القرضاوى» أداتها لتحقيق هذا الغرض، استغلالًا لوضعيّته الروحيّة والمرجعيّة داخل التنظيم، ولتبعيَّته السياسية والمالية لرأس الإمارة، بالنظر إلى احتضانه ومَنحه الجنسيّة منذ خروجه من مصر قبل عقود!
انجرافُ الدوحة ضمن موجة استهداف الدولة المصرية كان واضحًا بقوّة، إلى الدرجة التى فرضت الأمر على مجلس التعاون الخليجى، فخرجت وثيقة الرياض فى 2013، ثم مُلحقها التكميلى فى 2014، الذى يحظر على الدول الأعضاء اتّخاذ مواقف مُعادية للدول الخليجية أو الشركاء الإقليميّين وأعضاء الجامعة العربية، مع التراجع عن كلّ المواقف السابقة التى تندرج تحت لافتة العداء، ووقف الاستهداف الإعلامى، أو احتضان القوى المُناوئة لدول المنطقة ومصالحها. كانت صيغة الاتفاق عامّة نوعًا ما، لكنها كانت تقصد قطر حصرًا، وموقفها العدائى الواضح تجاه مصر.
لم ترتدع الدوحة أو تُغيِّر موقفها. استمرَّت فى استقبال عناصر الإخوان النازحين من مصر مُباشرة، أو من السودان كمحطّة انتقالية لهروب المطلوبين أمنيًّا أو المُدانين بأحكامٍ قضائية، ورتَّبت لهم إقامة مُيسَّرة ومدعومة، سمحت لكثيرين منهم بالعمل كمنصَّات انطلاق فى معركة الجماعة، واستهدافها لمصر والسُّلطة الناشئة من رحم ثورة يونيو. ورغم الأثر المحدود فعليًّا لتلك الحرب الإعلامية، وما ترافق معها من تمويل للميليشيات المُسلَّحة فى سوريا وليبيا واليمن، وعبور جانب من تلك التمويلات لعناصر القاعدة وداعش فى سيناء، كانت الرسالة الأكثر وضوحًا وتأثيرًا فى المحيط العربى، أن الدوحة لم تعد شريكًا أمينًا، ويُمكن حسابها بضمير هادئ على معسكر الأعداء!
فى تلك الأثناء كانت روابط الإمارة الصغيرة مع تركيا وإيران تتوطَّد، وتأخذ مساراتٍ أعمق. فى الوجه الظاهر تنامت الاتفاقات الاقتصادية والبروتوكولات السياسية، وتوالت الزيارات المُتبادلة، وزاد صندوق قطر السيادى استثماراته فى البلدين، وصولاً إلى استقبال عناصر من الجيش التركى والحرس الثورى، فيما يُشبه الإعلان المُباشر عن تحوُّل الإمارة إلى ثكنةٍ تركيّة فارسيّة، أو قاعدة انطلاق لمشروعىِّ العُثمانيّين والملالى فى المنطقة. أما فى الوجه المُضمر فكانت حلقات التنسيق تترابط ويستحكم انغلاقها فى بيئات الصراع المُشتعلة إقليميًّا. تولَّت الذراع العسكرية للبلدين التوسُّع فى العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان، وأمَّنت الإمارة الثريّة كُلفةَ تلك التحرُّكات، وما تحتاجه الميليشيات المُسلَّحة من تمويل ولوجستيّات، وابتكرت لذلك طُرقًا عديدة، بدءًا من نقل الأموال فى حقائب دبلوماسية، وصولاً إلى تقديمها فديةً فى اتّفاقات لتحرير رهائن أو أسرى.
لم تكن كُلّ تلك التحرُّكات بعيدةً عن أعين القوى الإقليمية وأجهزتها الأمنية. فى بادئ الأمر يبدو أنها تعاملت معها كنزوةٍ عابرة من نزوات قطر المُعتادة، أو تمرُّد عارضٍ من شقيق صغير يسعى للظهور والدفع برأسه من شِقٍّ فى الجدار، لكن لاحقًا كان على الدول العربية الكبرى مُراجعة تصوّرها الرومانسى حَسِن الظنّ، بعدما تمادت الدوحة فى مُروقها المُعلن والخفىّ، وأخذ الخروج على المصالح الإقليمية أبعادًا أكثر خطرًا وفداحة، وصلت قُبيل قرار المقاطعة إلى تسليم قوات التحالف العربى لميليشيّات الحوثيّين فى اليمن!
كان مطروحًا ضمن احتمالات التصعيد، أن تُراجع الإمارة الصغيرة مواقفها وتُغيّر قِبلتَها باتّجاه التهدئة والارتكاز إلى محيطها العربى، بالقدر الذى لا يحرمها من تطلُّعاتها الاقتصادية والاستثمارية فى الملعبين التركى والإيرانى، ولا يجور على مصالح الجيران أيضًا. وكان مطروحا بالدرجة نفسها أن تُكابر وتمضى فى طريقها، لتقطع روابطها العربية وتنغمس بكاملها فى المُحيط العثمانى الفارسى، ورغم فداحة المَسلك الثانى ومخاطره الواضحة، كان خيار «تميم» ووالدته للأسف. وهو المسار الذى وضع الإمارة رهن اشتراطات الحليفين المسعورين، وجعلها عُرضةً للابتزاز السهل لاحقًا!
المهمُّ أنه لم يكن مُمكنًا الإبقاء على قطر داخل الحظيرة العربية، بالحيِّز والوضعيَّة اللذين شغلتهما سابقًا. كان الأمر أشبه بتربية ثُعبانٍ فى قَفص عصافير، إذ لا خيار سوى الفرز وتعليق أجراس الولاءات المُتعارضة فى رقاب أصحابها، فإمّا أن تكون قطر شريكًا أمينًا ومُخلصًا لقواعد الشراكة، أو غريمًا واضحًا يجلس فى مقاعد الخصوم، أو يرتدى قميصهم ويلعب فى فريقهم، أمَّا أن يحرس مَرمانا ثمّ يُفوِّت الكُرة إلى الشِّباك، فذاك الخطأ الذى ارتكبته الدول الكبرى فى المنطقة سنوات عدَّة، قبل أن تستفيق وتلحظ فاتورته الباهظة، وما ترتَّب عليه من خسائر سياسيّة واستراتيجيَّة، وشقوقٍ وتصدُّعاتٍ فى الجدار العربى المُتداعى أصلاً تحت ضغط التوتُّرات والصراعات الإقليمية والحروب الأهلية الدائرة فى عددٍ من دول المنطقة، هكذا جاء القرار، ومن هنا كانت المُقاطعة!