أعدت مدرسة «النهضة المصرية» رواية «يوليوس قيصر» لشكسبير، لتمثيلها، ولعب الطالب جمال عبدالناصر دور يوليوس قيصر فيها، حسبما يذكر الكاتب السويسرى «جورج فوشيه» فى كتابه «جمال عبدالناصر فى طريق الثورة»، الصادر فى بيروت عام 1960، ترجمة، نجدة هاجر، سعيد الغز، فماذا عن أسرار هذه الحكاية، التى وقعت فى قاعة مسرح «برنتانيا» يوم 19 يناير، مثل هذا اليوم، عام 1935، وبرعاية وزير المعارف أحمد نجيب الهلالى باشا؟
يذكر «فوشيه» وقائع هذه القصة فى سياق تتبعه عن مصادر التكوين الثقافى لجمال عبدالناصر، وفى فصل بعنوان «مطالعات طالب وطنى»، يكشف عما عثر عليه فى سجلات مدرسة «النهضة المصرية» التى كان يدرس فيها جمال حتى قبل البكالوريا «شهادة الثانوية»، وتوقف أمام قراءاته من مكتبة المدرسة، أو استعاراته من أساتذته أحمد حسنين القرآنى، ومرسى الحميدى، ونجيب إبراهيم.. يؤكد فوشيه: «كان الطالب الفتى لا يكتفى بمطالعة هذه المؤلفات العربية والأجنبية مطالعة خاطفة، بل كان يتأملها طويلا».
يصنف «فوشيه» المفكرين الذين قرأ لهم جمال عبدالناصر فى تلك الفترة من حياته إلى ثلاث فئات، أولها: المفكرون العرب الذين يتحدثون عن تاريخ العرب والإسلام، وعلى رأسها «المدافعون عن الإسلام»، وهو كتاب نشره وقدم له الزعيم الوطنى مصطفى كامل..يذكر «فوشيه» أن الطالب جمال عبدالناصر قرأ أيضا سيرة مصطفى كامل، وكم مرة توجه إلى المكتبة لينقب بين الصحف عن المقالات التى كانت تنشرها للزعيم الوطنى.. يضيف: «هناك كتاب آخر قرأه فى تلك الحقبة للكاتب السورى عبدالرحمن الكواكبى الذى هاجر من سوريا إلى مصر، حيث أقام حتى وفاته، وكتابه هذا بعنوان «طبائع الاستبداد»، ونشر دون أى إشارة لاسم مؤلفه، لأنه كان ينتقد بشدة وعنف نظام الحكم التركى الاستبدادى، ومن مطالعاته أيضا لنفس المؤلف كتاب «أم القرى»، وقرأ كتاب «مشاهير الإسلام»، ومقالات الأمير «شكيب أرسلان» عن الشرق وأمجاده الغابرة التى كان ينشرها فى «اللواء»، و«الأخبار» التى كان يديرها أمين الرافعى.
يذكر «فوشيه» أنه مع تلك المؤلفات كان جمال يلتهم التهاما ما كانت تكتبه الصحف الوطنية الوفدية والجرائد ذات الميول الاشتراكية، بتوجيه من أستاذه «القرآنى» الذى كان يطلع على خير ما عند الغرب، وفى هذا المجال قرأ كتابا يحتوى سير أكبر رجالات فرنسا فى التاريخ، ومن بين هؤلاء أعجب باثنين هما «فولتير» و«روسو»، وبعد مشاركته فى لجنة تحرير مجلة المدرسة «النهضة المصرية» كتب فى المجلة مقالا بعنوان «فولتير رجل الحرية»، وفى تلك المقالة برز إعجاب الفتى المصرى بصفات «فولتير»، لا سيما ثورته ضد الفساد فى الحكم والروتين ورجال الدين والكنيسة.. قال: «لقد كافح المفكر طويلا كى يبقى دائما مفكرا حرا من كل قيد».. كما قال: «إن روسو وفولتير اللذين أعدا إعدادا كافيا ثورة سنة 1789 يأتيان فى طليعة القرن الثامن عشر».
يضيف «فوشيه»، أن الطالب جمال قرأ أيضا فى تلك المرحلة رواية «البؤساء» للفرنسى «فيكتور هيجو»، التى نقلها إلى العربية الشاعر حافظ إبراهيم، وكانت فى برنامج الدراسة فقرأها بشغف، كما قرأ سيرة نابليون، وغاندى، والإسكندر الأكبر، ويوليوس قيصر، وقرأ الرواية الشهيرة «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز، التى تدور حوادثها بين باريس ولندن، وخرج من قراءتها أن العنف لا يجر إلا العنف.. يؤكد «فوشيه»: «فى مجلس الثورة كان بعض الأعضاء يعربون عن ميلهم إلى استخدام العنف، وكان البكباشى جمال يعارضهم ويذكرهم بكتاب ديكنز وينصحهم بإعادة قراءته».
يصل «فوشيه» إلى حكاية قيام جمال بدور «يوليوس قيصر».. فيكشف أنه عرف أصل الحكاية من مخرج العمل نفسه الذى قام بدور «بروتس»، وفيها أن وزارة المعارف لم تكن تسمح بأن تشترك الفتيات فى تمثيل رواية مع الفتيان، لذلك كان من الضرورى البحث عن رواية لا أدوار رئيسية فيها إلا للذكور، وانطبق هذا الأمر على مأساة يوليوس قيصر، إذا حذف منها المشهد الذى تظهر فيه كليوباترا فى قصر الامبراطور.
كان دور «بروتس» هو الدور الرئيسى ثم دور «أنطوان»، أما دور «يوليوس قيصر» فهو قصير، وأسند إلى جمال عبدالناصر الذى يمثل لأول مرة، وأسندت الأدوار الصعبة إلى من هم أدرى منه بالتمثيل، وعندما طعن «يوليوس قيصر» بالخنجر على المسرح، كان عبدالناصر حسين، موظف البريد، والد جمال يشاهد ابنه الذى يقوم بدور قيصر، وهب واقفا فى مقعده والخوف باد عليه، وتأكد بفضل الله أن ابنه ما زال على قيد الحياة، فهدأ من روعه.