حازم حسين

الكَهنة والكُهنة.. رحلة الانتقال من سنوات الفوضى والإهمال

الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021 04:06 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

بات مقطوعا به، أن سنوات مصر بين 2011 وما قبلها لم تكن الأفضل. وربما لم يعد محلَّ شكٍّ كبير أيضًا أن ما بين يناير 2011 ويونيو 2013 كان تكثيفًا وتضخيمًا لكل ما سبقهما. وإن كان عنوان المرحلة الأولى الإهمال والتقصير وسوء الإدارة، فإن المرحلة الثانية لم تخلُ من كل ذلك، وزادت عليه الفوضى.

كثيرون ممن سبقوا 2011 لم يُحقِّقوا الحدَّ الأدنى من التزامات العمل والمسؤولية، وبعضهم كان عبئًا على المنظومة ودولاب الدولة. وبحسب حديث الرئيس عبد الفتاح السيسى اليوم، على هامش افتتاحه مصنع "كيما 2" للأسمدة ومشروعات تنموية أخرى بأسوان، فإن عددًا من هؤلاء المسؤولين "كانوا خايفين على الكراسى لحدّ ما خلّوا البلد كُهنة". هذا اللفظ الدارج يُلخِّص حالة تسلَّمناها جميعًا مع اندلاع أحداث يناير قبل عشر سنوات، واستفحلت قبيل يونيو 2013، بفعل "الكَهَنة" ممَّن نصَّبوا أنفسهم أوصياء على الوطن والدين ومفاهيم الثورة والعدالة، وحقَّقوا لقاء ذلك مكاسب شخصية أو أيديولوجية، لكنهم تركوا وراءهم مُجتمعًا مُهلهلاً، وبلدًا يئنُّ بفعل التفرقة والانقسام وتَوزُّعِ الولاءات داخليًّا وخارجيًّا.

انتقد الرئيس حالة مصر التى تسبَّبت فيها فوضى ما بعد يناير، وقال بوضوح إنها كانت على وشك الخراب، وما أنقذها إلا عناية الله ثمّ استيعاب المصريين والتفافهم حول هدف وطنى جامع. ربما تتفاوت الرؤى بشأن ما حدث، لكن ما لا يُمكن إنكاره أن الخارجين فى 2011 - وإن تحلَّى كثيرون منهم بالوطنية والأمل، ورفعوا فوق رؤوسهم أحلامًا أبعد من أياديهم وأكبر من قدرتهم على تحقيقها - لم يكونوا جميعا على قلب وطن واحد، فهناك فريق آخر اعتبر الأمر معركة على المصالح، و"مُصارعة موتٍ" يحقُّ لهم فيها استخدام كل الوسائل؛ وصولا إلى غاية يرونها مُبرَّرَة، وفرصة قد لا تتكرَّر فى وجهة نظرهم. هؤلاء جميعًا - على اختلاف أطيافهم ومرجعيَّاتهم - ارتدوا مُسوح الكَهنة، وتاجروا بشعارات الثورة والدين والوطنية والحقوق والحريات، ثم فتحوا جيبوهم ومقرّات أحزابهم وجمعيَّاتهم؛ مُتأهِّبين لجنى الثمار. حصدوا وربحوا بالفعل، لكن خسر الوطن.

تلك الصورة السوداء لم تكن لتتأسَّس إلا على أنقاض رمادية، تُوفِّر غطاءً شرعيًّا ومُبرّرًا مقبولاً أمام العوام والبسطاء. من هنا تسرَّب الكَهَنة مُدَّعين أنهم يقتصُّون لأهل البلد ممَّن جعلوها "كُهنة". كانت مصر كُهنة بالفعل ولا مراء فى ذلك، فما بين أوضاع سياسية وتنفيذية رتيبة ومحشوَّة بالفساد، ومُعدَّلات نموٍّ وإن بدت جيدة إلا أنها لا تنعكس على الحالة العامة، وأخيرًا تراجع فادح فى الخدمات والبنية التحتية والإنتاج وميزانى التجارة والمدفوعات. كان فريق ممَّن تصدَّروا واجهة هذا البلد حريصين على مناصبهم وكراسيهم أكثر من البلد نفسه، ثمّ تواروا تحت موجة هوجاء لصالح فريق آخر، سعى إلى تصدُّر البلد وارتقاء عرشه، من أجل أنفسهم وجماعاتهم وأصدقائهم ومموليهم أيضًا، لا من أجل البلد نفسه.

بين الكَهَنة ومن جعلوها كُهنة، عاش المصريون سنوات طويلة يُساقون إلى مصير لم يختاروه أو يُستشاروا فيه، ولا يُحسِّن أوضاع غلافهم الاجتماعى أو حتى يُبقى عليها فى حيّز الاستقرار. أُهدرت موارد مصر وتأخَّرت مسيرة نموُّها وتطوُّرها قبل 2011، ثم أُهدرت مصر نفسها وعُرِّض أمنها القومى للخطر بعد 2011. لا الأوائل اعترفوا بما جنوه علينا وعلى البلد، ولا المُتأخِّرون فكَّروا فى التوقُّف لحظة للفهم والاستيعاب والإقرار بالخطأ والاعتذار عنه. هكذا كان ضروريًّا أن ينتفض الشعب نفسه كما جرى فى 30 يونيو 2013، وبفضل ذلك وحده تقلَّص الصدأ الذى كان يتمدَّد مُهدِّدًا ما تبقّى من "كُهنة البلد"، وجُفِّفت مُستنقعات الكَهَنة الذين فاز بعضهم بما يكفيه، وغادر البعض إلى بلادٍ وولاءات أخرى، وجاهر آخرون بمواقف وانحيازات تتجاوز حيِّز الاختلاف، وتقع فى دائرة الخلاف والشقاق والعداء.

فاتورة سنوات الإهمال والتقصير، ثمّ فاتورة سنوات الفوضى والانفلات والمصالح الشخصية، كانت كفيلة بإرهاق هذا البلد وقصم ظهره. احتجنا بعد 30 يونيو 2013 أكثر من ثلاث سنوات من أجل التعافى، لكنها لم تكن نزهة قضيناها فى حديقة غنَّاء، فما بين حرب إرهاب مفتوحة داخليًّا وخارجيًّا، واستهداف مُنظَّمٍ من دول وجماعات ومنصَّات إعلامية، ونَخرٍ من الداخل يضطلع به ويرعاه فريق من أصحاب "دكاكين التمويلات" والتبعية الموجهة من شركاء وأصدقاء ومؤسَّسات ومانحين، كانت المسيرة صعبة ومُرهقة. لكن إجماع الناس على الضيق والرفض القاطعين لأزمان الكُهنة والكَهَنة كان كفيلاً بتحريرنا من هذا الميراث، وتذويب آثاره إلى حدِّ أنه لم يعُد يُرى بالعين المُجرَّدة. انتصب عود مصر، الدولة والناس، وعالجت اختلالات الاقتصاد، بما فى ذلك من احتياطى كاد أن ينضب، واختلال فى موازين التجارة والمدفوعات والعرض والطلب، وقصور فادح فى الموازنة، وعيوب جسيمة فى السياسات المالية والنقدية وسعر الصرف، وعلوٍّ مُرهقٍ للتضخم والبطالة، وغير ذلك من مُعوِّقات أورثنا إيَّاها صُنّاع الكُهنة، ورعاها وأخلص لها وعمَّق آثارها الكَهَنة وصيَّادو منافع الفوضى والانفلات.

بدأت المحاولات مُبكّرًا، وبإخلاص واضحٍ، منذ 2014، بإعادة ترميم الجبهة الداخلية وتعزيز الروح المعنوية للمصريين، ثم إطلاق حزمة مشروعات قومية عملاقة، مثل: قناة السويس الجديدة والعاصمة الإدارية والمدن الذكية والمجمَّعات الصناعية. لكن عمليًّا كان الانطلاق الواضح والمُؤثّر مع خطة الإصلاح الاقتصادى وتحرير سعر الصرف أواخر 2016، ليكون بمقدورنا التأريخ بدءًا من 2017 لمسار نهضوى فاعل، يتأسَّس على رؤيةٍ عمادها استكشاف كل الطاقات، وإعادة توظيفها على نحو دقيق، والتحرُّك فى كل المسارات دفعة واحدة، وخلق توازن بين اعتبارات التنمية وتوسعة الاقتصاد، والتزامات العدالة الاجتماعية وحماية الفئات الأولى بالرعاية. تلك المسيرة أثمرت مشروعات وبرامج بأكثر من 6 تريليونات جنيه، ومبادرات رئاسية استثنائية وغير مسبوقة، ومن عطاياها عشنا أسبوعًا مع صعيد مصر، شهد إقامة رئاسية تُجسد التفات الدولة جنوبًا، وعددًا من الافتتاحات الضخمة ضمن حزمة استثمار وتنمية للجنوب تجاوزت 1.1 تريليون جنيه، تعيد الاعتبار للصعيد، وتُرسخ فلسفة الكفاءة فى استغلال كل الموارد، والعدالة فى توزيع ثمار النموّ.

ربما لم نصل بعد إلى ما نطمح إليه، والرئيس نفسه دائم التأكيد على أن المشوار طويل ويحتاج مزيدًا من الوقت والجهد، لكن من دون أىّ شكٍّ قطعنا أشواطًا بعيدة ومهمّة، وتجاوزنا كل مراحل الخطر والقلق، وأصبحنا فى موقع أفضل ممّا كانت عليه مصر مع الكَهَنة وصُنَّاع الكُهْنَة. الواقع أصدقُ إنباءً من الخُطبِ والشعارات - بتصرُّف من البيت الشهير للشاعر أبى تمّام - والتاريخ يقظ ومُتَّقد الوعى والذاكرة، لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلَّا أحصاها، ومن المؤكَّد أن فى طليعة إحصاءاته سيُدوِّن آثار الكُهْنَة وسوءات الكَهَنة وما فعلوه فى مصر، وسيُدوِّن أيضًا حصيلة سنوات البناء وإعادة التأسيس لوطنٍ حاضنٍ ودولة حاضرة، وحصيلة رحلة الانتقال من الفوضى والإهمال إلى بلد "فابريكا"، شعارها التصنيع والإنتاج والعمل الذى لا يتوقَّف، وإلى مُجتمع بلا كهانة أو وصاية أو تجارة بالأيديولوجيا والشعارات.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة