كتبت شاعرةٌ عبر "فيس بوك" تنتقدُ ما آلت إليه أُمور التلقِّى وعلاقةُ القُرَّاءِ بالشِّعر والشُّعراء. كثيرون أبدوا أسفًا عميقًا، مُتباكين على سُموّ الكتابة ووضاعةِ التلقّى، وساخرين من تعليقات الناس وآرائهم ومُستويات استقبالهم للنصوص وأصحابها. رغم ما يبدو عليه الأمرُ من تفاهةٍ أو خفِّةٍ، فإنه يُؤشِّر إلى عُمقِ الأزمةِ التى يعيشها فصيلٌ من المُثقَّفين، لا سيَّما أهل الشِّعر، ولا تخصُّ سوقَ النَّشرِ، أو الرَّواج وإقبال الناس من إحجامهم، وإنَّما تخصُّ المفاهيمَ بالأساس، وتتَّصل فى درجتها الأولى برُؤية الكُتَّاب للكتابةِ، ووعيهم بالصَّنعةِ، ورهانهم عليها، وما يفهمونه عنها أو يستهدفونه منها، على صعيدِ الحاجةِ الشخصية أو الأدوار العامة.
الامتعاضُ الذى حملَه المنشور، وتعليقات من تفاعلوا معه وبُكائيَّاتهم، دارت بكاملها فى اتِّجاه تدنِّى وعى الناس وذوائقهم، والضيق ممَّا يُبدونه من تعليقاتٍ فنيَّةٍ أو انطباعيَّةٍ على نصوصِ الشُّعراء. بعضهم قال إن الجمهورَ حبيسُ المرحلة "النزارية"، نسبةً إلى تجربة الشاعر البارز نزار قبانى، وآخرون رأوا أن نهرًا شعريًّا جارفًا لا يجد ضفافًا تحتويه من المُتلقِّين. إحساسُ المظلوميَّة قد يبدو مفهومًا بدرجة نسبيَّةٍ إذا نظرنا من زاويةِ رُؤيةِ الشُّعراءِ لأنفسهم وتطلُّعهم المشروعِ لأن يكونوا بضاعةً رائجة، لكنَّنا لو تحرَّرنا من الذاتيَّة الضيِّقة فى النظر، فرُبَّما تكونُ حقيقةُ الصورةِ غير ما تبدو عليه!
يعيشُ الشِّعرُ العربىُّ محنةً حقيقيَّةً، ربَّما لأنه لم يعُد يُشبِع احتياجات جمهوره المُفترَض، أو لأنَّ طبيعةَ الذائقةِ والتلقِّى تغيَّرت، فى سياقٍ اجتماعىٍّ ومعرفىٍّ بات مُغايرًا تمامًا لما كُنَّا عليه قبل عقود. الحقيقةُ أن المحنةَ عامّةٌ يُعانيها الشُّعراءُ فى كلِّ اللغات، بين إنتاجٍ كثيفٍ ومحدوديَّةٍ فى الاستهلاكِ والذّيوع، تكشفُها قِلَّةُ المطبوع ونُدرةُ التوزيع وجفاف فعاليات الشِّعر وأنشطته من الناس. وما هو أعمق من ذلك - لكنَّ الشُّعراءَ قد يُكابرون فيه - أن الشِّعرَ لم يكُن فنًّا جماهيريًّا فى أيَّة مرحلةٍ من مراحله، حتى وقتما كان الشاعرُ بُوقَ القبيلةِ ووزيرَ إعلامها ومُؤرِّخَها وصانعَ بطولاتها. ظلَّ الأمرُ حبيسَ قُصور الولاةِ والخُلفاء، وتجمُّعاتِ الشعراء وأسواقِهم ومبارزاتهم، أما ما راجَ على ألسنةِ العوامِ من أبياتٍ جرت مجرى الحِكَمِ والأمثال، فلم يكُن يصحبه فى الغالبِ رواجٌ للصَّنعةِ ورموزِها، ولم يُوفِّر الشِّعرُ ذيوعًا ورفاهيةً لأهله إلَّا من أبواب العطايا وإنعام الحُكَّام!
الأمر الآن باتَ أكثر تعقيدًا. جزءٌ يرتبطُ بتحوُّلِ الشعريَّةِ العربيَّةِ إلى مداراتٍ أكثرَ ذاتيَّةً وخُفوتًا، وإغراقٍ فى مشاغل تخصُّ أصحابها، ورِدِّةٍ عن قِيَمٍ جماليَّةٍ شكَّلت عمادَ القَبولِ النسبىِّ للشِّعر طوالَ تاريخه، لا سيَّما قيم الغنائيَّةِ والتطريب والاحتفاء بالمُوسيقى الظاهرةِ والاختزال القابل للإنشاد أو الصالح لإنتاج المواعظ والحِكَم. لعلَّ جزءًا آخرَ يتَّصل بتطوُّرِ منظومةِ الاجتماع والعلاقات وأدوات الاتِّصال، وما نشأ عن ذلك من حداثةٍ رفعت الإدراكَ فوق الحدس، وانتصرت للتجربة على حسابِ التوهُّمِ، ثمّ تعقَّدت سريعًا ليتجاوزها العالمُ إلى سيولةٍ قوامًها الشكُّ، والاختبارُ، سقوطُ القضايا الكبرى وجدارة خطابات الإرشادِ والتوجيه، لتُسقِطَ معها يقينَ الشُّعراءِ ونُبوَّتَهم المُدَّعاة، فضلاً عن إيغال الناس فى صِيَغٍ عضويَّةٍ للتواصلِ، تحتفى بالتشارُكيَّةِ وترفعُ التشخيصَ فوق التجريد، ربَّما من هنا راجت فنونُ الموسيقى والسماع أكثر ممَّا كانت عليه، اتَّسعت مساحاتُ الرواية والسَّرد، وتنامى حضورُ الدراما والفنون البصرية. تلك الحالة تُشيرُ إلى احتياجٍ ناشئ لدى الناس أن يعيشوا السياقات بكاملها، لا أن يحبسوا أنفسَهم فى مُفردةٍ من مُفرداتها، وإلى نهمٍ طافرٍ ومُتعاظمٍ لاستهلاك فنونِ المُحاكاةِ بأبنيتها المُكتملة، بدلاً من أوهام الحكمة بجُدرانها العارية!
انتقادُ وعى الناسِ تجاهَ الشِّعرِ بأنه حبيسُ مرحلةٍ "نزاريَّةٍ" انقضت وأغلقت بابَها، ينطوى على مُستوى مُركَّبٍ من الأغاليط. أوَّلاً لأن ما يقف الشِّعرُ عنده الآن جماليًّا ليس محلَّ اتِّفاقٍ بين الشُّعراءِ أنفسِهم، وتغيب معياريَّة الفرز والتقييم إلى حدِّ أنَّ من يكتبون اللون نفسَه يُخطِّئون بعضَهم أو يرفعون عباءةَ الفنيَّةِ والإبداع عن بعض. خصمت قصيدةُ النثرِ بكل تنوُّعها وانفتاحها وعطاياها من رصيد الشِّعرِ لدى الناس، وحروبُ التقليديِّين والتقدُّميِّين تبدو "مُصارعةَ موتٍ" عاجزةً عن استيعاب اتِّساع الأشكال واحتواء مسالك الجمال كيفما اختارت أن تكون، لكنَّ الفادح فى تلك النظرة أنَّها تتعاملُ مع نزار قبانى، ومن سلكوا مسلكًا شبيهًا، كأنهم يُمثِّلون مرحلةً خطابيَّةً فقيرةَ العطاء، بينما واقع الحال يضع "نزار" فوق غيره من المُجايلين واللاحقين، لأنَّه أحدثَ فى الشِّعريَّةِ العربيَّةِ ما لم يُحدثه كُلُّ كُتَّابِ القصائد الآن. جعل "نزارُ" الشِّعرَ خبزًا يوميًّا طازجًا، وأنزله إلى الشارعِ ورُوحِ الناس، وأحدث تحوُّلاً عميقًا للغاية فى لغته ومُستويات خطابِه واتِّصاله بالقضايا الاجتماعية وحركة المجال العام. كان شعر نزار قبَّانى حلقةً مُهمَّةً فى إدخال الشعر ضمن مُعتركِ النهضة العربية ما بعد مُنتصف القرن العشرين، وجعلِه أداةً عضويَّةً من أدوات التنوير والتثوير ودفع المجتمع إلى الأمام. كُلُّ ما حافظ عليه ونمَّاه وأضافه نزار قبّانى ومحمود درويش وعبد الرحمن الأبنودى وفؤاد حداد وصلاح جاهين وفؤاد قاعود وسميح القاسم والجواهرى والبياتى وصلاح عبد الصبور وعبد المعطى حجازى وأمل دنقل وغيرهم للشِّعرِ ضحى به شُعراءُ الراهنِ المُتحاملون عليهم أو المُتعالون على قصائدهم بخفَّةٍ ورُعونةٍ و"بارانويا" لا مُبرِّر لها. أفقدوا الشِّعرَ آخرَ خصيصةٍ اجتماعيَّةٍ كانت تضعُه سلعةً رائجةً على رُفوف المكتباتِ وفى بيوت الناس، فبات مُنتجًا كاسدًا يتداولُه الشُّعراءُ وحدهم، ثمَّ يختصمون الناسَ لأنَّهم قرَّروا ألا يدفعوا أموالَهم ووقتَهم فى بضاعةٍ لا تُعبِّر عنهم ولا تسدُّ فراغَ نفوسهم!
نقتربُ من معرض الكتاب، وسيدخلُ شعراءٌ كثيرون بدواوين طُبِعَت عشرات النُّسَخ ويخرجون بطَبْعاتِهم نفسِها إلا قليلاً، ولن يتوقَّفَ أحدٌ منهم أمامَ الظاهرةِ أو يبحثَ أسبَابها أو يتحمَّل نصيبَه من المِحْنَة. الرائجُ الآنَ من الشِّعرِ يخصُّ ما سبقَ أكثر ممَّا هو قائم، ينتمى إلى رهاناتٍ جماليِّةٍ قديمة غير ما يُنظِّرُ له المُنظِّرون ويعبُده العاكفون على سوقٍ انفضَّ عنها الناس. آحادٌ من الشباب يحتفون بالغنائيَّة والمُباشرة والمَوسَقَةِ، يُحقِّقون مبيعاتٍ تفوق مجموع ما يكتبه الباقون من سابقين ولاحقين. لكنَّ جميعهم قد لا يصمدون فى مُعادلةِ التوزيع أمام روايةٍ أو روايتين من الأكثر مبيعًا. الأمر لا يخصُّ جودةَ المكتوب أو رداءته، ولا سموَّ الذائقة أو تدنِّيها، إنما يتَّصل بُمعادلةِ استهلاكٍ تُخالف ما تعوَّدناه طويلاً. المشكلةُ أن الشُّعراءَ لا يريدون رؤيةَ المشهدِ على حقيقته، فيتدافعون فى مسارٍ من الإنكارِ والإسقاطِ والبحث عن شمَّاعةٍ يُعلِّقون عليها الجريرة ويُحمِّلونها نتيجةَ ما آلت إليه الأحوال. وفضلاً عن غَسلِ الأيدى، فإنَّ حصَّةً غالبةً منهم يُواجهون العالمَ بعقولٍ مغسولةٍ أيضًا. بات منسوبُ الوعى لدى شباب المُثقَّفين مُنخفضًا وآخذًا فى الانحسار للأسف، حتى أنَّك قد تشعرُ وأنت تقرأ نتاجَهم أنهم لا يجدون ولا يُجيدون ما يقولون، ويستهلكون مُعادًا ويقولون رجيعًا، كما قال زُهير "ما أرانا نقول إلَّا رجيعًا أو مُعادًا من قولنا مكرورا". قديمًا كان الشَّاعرُ رأسَ قبيلته وعمودَ خيمتِها، وفى زمن "نزار" كانَ الشَّاعرُ موسوعةً وأُمَّةً من المُثقَّفين. الآن لا يحملُ الشَّاعرُ رايةَ أهله، ولا يمتازُ عنهم معرفةً ووعيًا، لكنَّه يتعالى عليهم؛ لأنَّهم لا يرونه ويُنكرون نبوَّةً يحملها لنفسه، وليس واجبًا على الناسِ أن يروا فينا ما نراه فى أنفسنا. يحتاجُ الشُّعراءُ أن يكونوا قُرَّاء أوَّلاً، وأن يُحسِنوا القراءةَ، قبل أن يشتجروا جميعًا فى قصيدةٍ واحدةٍ يكتبونها، وفى قُرَّاء معدودين ينصرفون عنهم تباعًا!