أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين

أم كلثوم.. سيرة سيدة أطعمت العشم وحلبت بقرة العدالة

الخميس، 03 فبراير 2022 06:22 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أحببنا صوتَها وأحببنا عليه. أمسك يدَنا من المعصمِ وأرشدَنا إلى أنفسنا والعالم، كأنه أخٌ أكبر أو دليلٌ فى صحارى تزحمُ صدورَنا ولا نعرف لها أوّلاً من آخر. قد يرى البعضُ أم كلثوم إبراهيم البلتاجى صوتًا مُعجزًا، أو مُطربةً استثنائيَّةً لم يجُد الزمانُ بمثلها؛ لكنَّها فى جوهرِ الأمر ومُحكمِ التعاريف تتجاوزُ ذلك بكثير. فلاحةُ "طماى الزهايرة" التى نفذت إلى عالمِ الصفوةِ، وإلى ناسِها البُسطاء، بجُبَّة شيخٍ وعقالِ مُسافرٍ بدوىٍّ، وبروحٍ مُنطلقةٍ كأنها انفلتت من كلِّ قَيدٍ أو مكتوبٍ على عامَّة الخَلق، صنعت تاريخًا يتجاوزُ فعل الحناجر فى الآذان، وسبكت أسطورتَها المُدهشةَ من خليط معادن عادية جدا. دخلت الحكايةَ بنتًا فقيرةً عاريةً من كلِّ تقليدىِّ ومناطِ فخرٍ، فى الحَسَبِ والنَّسَبِ ومطروقِ الجمال، وخرجت منها ميزانًا يُوزَن الناسُ به، ومعيارًا يُقاس عليه نجاحُ العابرين فى هذا العالم وأثرُهم.

 

كُنت - وأنا غضُّ العقلِ وأخضرُ الرُّوحِ - طريدًا من الجنَّةِ الكُلثوميّة. ربَّما لأننى نتاجُ عالمٍ تخلَّى عن وقاره، وبدأ مسيرةً مُتسارعةً فى نَهب الوقتِ والأرواح. كانت "الستُّ" تحوطنى من كلِّ جانب، وتقعُ فى القلب من اهتمام أُمِّى البسيطة، وجيرانى الفلَّاحين، ونزرًا من أثير الشبابيك الإعلامية الضيِّقةِ وقتها. أنفقتُ جهدًا مُضنيًا فى المُراوغة، وقصدًا خشنًا فى الإفلات ممَّا كنتُ أراه إلحاحًا خانقًا فى تقييدى إلى كرسىٍّ ثابتٍ، وحَبس انطلاقتى وجُموحى فى معزوفةٍ تبتغى إنشادَ زمنى ومشاعرى وإحساسى بالدِّراما المُحيطةِ على إيقاعات الآخرين. تصعبُ الحكمةُ على الأطفال، وتتجاوز الطفولةُ فكرةَ العُمر. أيقنتُ لاحقًا أنَّ "أم كلثوم" اختبارٌ صريحٌ للنُّضجِ، وعلامةٌ فارقةٌ على استواءِ الرُّوحِ فوق مقعدها المنذورة له. بدأتْ تتسرَّبُ لى شيئًا فشيئا بعدما تجاوزتُ العشرين، وبدأتُ أكتشفُ نفسى معها كما لم أعرفنى من قبل.

 

اليوم، تنقضى سبعٌ وأربعون سنةً بحسابِ الوقتِ العابر على غُروبِ "كوكب الشرق"؛ لكنها ما تزالُ مُشرقةً وفى كامل لمعانها كأنها وُلدت فى الصباح. كلَّما عبرتها السنواتُ ازدادت فتنتُها، ليس لأنها تُجدِّد فينا الحنينَ إلى أيامٍ نراها أفضلَ من أيامنا؛ ولكن لأنها تضعُ يدَها دائمًا على القطعة البيضاء فى أرواحنا، وتُبشِّرُنا مع كلِّ قرارٍ عميقٍ بأنَّ هناك ما يستحقُّ أن نهمسَه ونُحدِّثَ به أنفسنا، ومع كلِّ جوابٍ رنَّانٍ بأنَّ فى صُدورِنا طاقةً يُمكن أن تحمل أصواتَنا وما نريدُ قولَه إلى السماء والعالم. البسيطةُ التى عقّدت الأمورَ حتى أنَّ غيرَها لم يعُد قادرًا على مجاراتها، والمُعقَّدةُ التى تُشبهك إلى درجةِ الإقناع بأنَّ لديك شيئًا استثنائيًّا بليغًا وإن لم تكتشفه بعد. ميزةُ "أم كلثوم" الكُبرى أنها ربَّت الأملَ على أحبالِ صوتِها، ثمَّ أنضجته وطيَّرته عصافيرَ مُلوَّنةً إن لم تقنص واحدًا منها فلن تُحرَمَ على الأقلّ بهجةَ الامتلاءِ بحيويَّتها وبهائها!

 

ثلاثةُ أرباعِ القرنِ تقريبًا قضتها أمُّ كلثوم على المسارحِ، ولم تختلفُ آخرُ آهةٍ لها عن الأُولى إلا بقدرِ تلوُّنِ الثَّمرةِ المُكتملةِ بعد نُضجِها. حنجرتُها الذى تُقدِّم أُمثولةً مسموعةً لصورةِ "أخناتون" المُكتنزةِ بالذُّكورةِ والأُنوثةِ، يمتدُّ مداها على ديوانين كاملين، وتجاوز فى فترةِ العُنفوانِ والانفلاتِ من كُلِّ كابحٍ حتى الخبرة، سبعةَ عشرَ مقامًا. بل إنها أحدثت فى الأمرِ ما يُعجزُ مثلاً فى رائعتِها "وحقّك أنت المُنى والطَّلب" التى أنشدتها بالعام 1926 ضاربةً كُلَّ أرقامِها وأرقامِ الآخرين. وإلى ذلك، يمتدُّ صوتها على قسمين من أقسامٍ ثلاثة لأصوات النساء، كونترالتو وميزو سوبرانو، مع وصولٍ إلى مساحة "رى بيمول" ضمن طبقةِ "الباريتون" الوسيطةِ فى أصوات الرجال، كما فعلت فى "يا ظالمنى" من حفل فندق كابيتول بيروت 1954، فضلاً عن تقنيةِ أداءٍ تتركَّزُ فى الحنجرة لا عبر ضغط الحجاب الحاجز للهواء الصاعد، وغنائها لأربع ساعاتٍ مُتّصلةٍ حتى بعدما تجاوزت السبعين، مُحلِّقةً كفراشةٍ خفيفةٍ بينما تحملُ جهازَ صوتٍ كأنه جبلٌ عملاقٌ من الحِبالِ والتجاويف. مُعجزةٌ كاملةٌ فى كلِّ شىء: قُدرةِ الصَّوتِ وسياستِه، وبساطةِ الأداءِ فى عُمقٍ، وخفَّةِ التَّنقُّلِ بين الحالات والمقامات، ورغم ذلك ليس هذا كلّ ما فى حكاية الستّ.

 

أمُّ كلثوم ليست مُطربةً، لا يجوزُ اختزالُها فى حنجرةٍ ومصفوفةٍ من الأحبالِ الصوتيَّةِ، لعلَّ الأوقعَ اعتبارُها تهجئةً مُمتدَّةً فى الزَّمنِ لميراثِ الوجدانِ العربى، وحالاتِ شُعورِه المُوزَّعةِ بين التقييد والانفلات، كأنها الموجةُ التى تلوح فى البعيد، كارتجاجٍ عاصفٍ للماءِ فى دَورقٍ زُجاجىٍّ مُحكَمِ الإغلاق، فى ظاهرِه ارتواءٌ، وفى جوهرِه ظمأٌ لا يحدُّه ماء، وعلى الشطِّ نُثارٌ من سِيَرِ الصيَّادين والغرقى والأسماك، وحكايةٌ مفتوحةٌ على مصارين البحر. قرابةُ نصفِ القرنِ على ارتدادِ الموجةِ، على قَبضِ الصَّوتِ، على مُزاوجةِ الماءِ للعطش، وما زال البحرُ عاصفًا والصَّدى صادحًا والنهرُ يجرى لمُستقَرٍّ له، يكبرُ السمّاعون ويشيبون ويُبعثون رمادًا وطِينًا، والسيِّدةُ على عرشها، تتبدَّلُ عليها الحكايات، ولا تسجنُها حكايةٌ أو يُؤطِّرها حكّاء. يُخطئ كثيرون ممَّن يقربون بلاغتَها الفاتنةَ المُعجزة، وهم يختزلون الطِّينَ فى السُّنبُلة، والحقلَ فى المارَّة، والزُرَّاع فى الآكلين، فيُهندمون حكاياتهم عن "أم كلثوم" ويُعيدونها كما يحكون عن حبيباتِهم أو توهُّماتهم الذاتيَّة، مُلخِّصين النهرَ فى شَربةٍ منه، تمامًا كما نسجنُ الحياةَ فى اللغة، مُتورِّطين فى تعريفِ الشَّجرةِ بظلِّ الفرع، والأصلُ أن يُرَدَّ الفرعُ للأصل.

 

كان صوتُ "أم كلثوم" غنيًْا بإسراف، بإسرافٍ شديد، يحوزُ أجملَ ما فى أصوات النساء، مجدولاً بما تنفرد به حناجرُ الرِّجال، فكانت تملكُ قرارًا يندرُ أن تجدَه فى آلةِ صوتٍ نسائيَّة، وقُدرةً على ابتداع الحِليات والزخارفِ بشكل يُعجزُ حتى آلات الرِّجالِ الطيِّعة، يتساندُ هذا على مسارِ إعدادٍ ربَّما رتَّبته المقاديرُ، من إنشادِ الموالِدِ إلى مُوسيقى "أبو العلا محمد"، الذى عبّأ روحها بالمقامات وانتقالاتها الحصيفة، لتنداحَ فى ثنايا حِسِّها ولو ترنَّمت خارجَها، ثم هذَّبت المُماىسةُ الواعيةُ والاستذكارُ الجادُّ شيئًا من الحِدَّة والانفلات والرنين المعدنىِّ الذى طبعَ صوتَها مع العشرينيَّات؛ لتصل فى الأربعينيَّات إلى النكهةِ الكُلثوميَّة الصافية، بتعبيرٍ مُبينٍ وتأثيرٍ أخَّاذٍ وابتكارٍ خالصٍ لصاحبتِه، الصوت الفريد العريض القوى، الحادِّ فى اتِّزان، والليِّن الطيِّع فى قُوَّة وصرامة، بينما اشتغلت القُدرةُ العَليَّة التى تديرُ موهبتَها السامقة، على مزجِ وعى المُنشدِ بسَمْتِ المُطربة: مُراقصة الذَّاتِ للموضوع دون التحامٍ أو انفصال، غناء الحكاية والسَّرد "الشهرزادى" بثراءِ التَّطريبِ والتجاوبِ والإعادة والتكرار، هكذا فى نسيجٍ عضوىٍّ ألَّفت فيه "الستُّ" بين كلِّ شىءٍ وأىِّ شىء، بين عِقالِها القديم ومنديلها الحديث، البطانةِ والأوركسترا، الوَجْدِ الإلهى والنُّزوع الحِسِّى، الوقوفِ فى السُّفوحِ مُلامسةً للأرضِ والوُصول إلى الذُّرى مُعانِقَةً هامةَ السماء.

 

مضتْ أُمُّ كلثوم ولم يمض أثرُها؛ ليس لأنَّها تركت فنًّا باذخًا يُطاول فنونَ السابقين واللاحقين ويعلوها، وإنَّما لأنها حملت موهبةً لا تجودُ بها الحياةُ مِرارًا، وقدَّمت نموذجَ نجاحٍ يُكثِّف كُلَّ حمولات القُدرةِ والصِّدق والطُّموحِ ويعرضُها دفعةً واحدة، ويُبرهن عليها عمليًّا. منحت الستُّ معنى لتاريخٍ طويلٍ من المُوسيقى لم يكن وقع على معناه، أو ابتكر لنفسِه رُوحًا وجسدًا يُشبهان ناسَه ومن يتطلُّع إلى مُخاطبتهم، عالجت شُروخَ الخريطةِ بعدما ألَّفت القُلوبَ وذوَّبت الفوارقَ وجمعت الفُرقاءَ على محبَّتِها، ونجحت فى أن تكونَ قوميَّةً بديلةً لآمالٍ عجز العربُ عن اقتناصها قُرونًا. قيمتُها الأبقى فى الصوتِ والإبداعِ الشخصىِّ من دون شكٍّ، لكن لديها ما هو أكبرُ من أثرِ السَّماع وما يتبقَّى على اللسان من حلاوة، أهمُّه أنها مسحت جبين أبناء العاديِّين بزيتِ الأملِ، أطعمتْ العشمَ وحَلَبتْ بقرةَ العدالةِ، وحفظت كرامةَ الطِّين الذى يُثمرُ كيفما أرادَ لا كما يُريدُ الإقطاعيِّون دومًا، وتركت دليلاً خالدًا على أن الجمالَ أبقى من كلِّ سطوةٍ وبهرجةٍ ومال!

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة