قطعةٌ ناصعةٌ من الرُّوحِ ذَوَت، وأشعلَ الرحيلُ فتيلاً فى حَطَب الذاكرة. لم يكن رحيلُ سيد حجاب قبل خمسِ سنواتٍ حدثا عاديًا، أو موتًا عابرًا كما يموتُ آحادُ الناس. على قدرِ أهل الحياة تأتى مرارةُ الموت، وبقدر ما أخلصوا لوجودِهم تكون سخونةُ السِّيخِ الذى يخترقُ قلوبَ مُحبِّيهم. كُنتُ واحدًا ممَّن اخترقت وفاة "حجاب" صدرَه، وأدمت فؤادَه، وقطَّرت المُرَّ فى حلقِه؛ كأنَّ يُتمًا قديمًا يتجدَّدُ ويُورقُ ويزرعُ مدى الرؤيةِ حنظلاً وصبَّارًا!
هل يبدو مُؤثِّرًا أن أقولَ إنَّ شوكةً من صبَّارةٍ عتيقةٍ، مسبوكةً فى غلافٍ من فولاذٍ، اخترقت قلبى بينما تتلقَّى أُذناى الخبر؟ المقامُ لا يحتمل البلاغة، فقط "رجعت 25 سنة لورا وعرفت معنى اليُتم"، والله لا أقبضُ على سببٍ لهذا. ليس أبى الذي رحل فى صيف 1992، ولستُ واحدًا ممَّن يُقدِّسون البشرَ؛ ولو قطفوا نجومَ السماء وارتقوا إلى جوار عرش النّعمة؛ لكنَّ جدارًا فى الروح انقضَّ برحيل واحدٍ من بُناةِ الأرواح، ولعلَّه لا يُقام، وقد بلغنا من الوَهَن عِتيّا، ولم يعد فى مدى الأيام والفنِّ والإبداع عَشَمٌ أو بِشارةٌ بجَميل.
كتبتُ يومَ رحيلِه عبر فيس بوك: "أو لم تكُن قاسيًا قَطّ فى حياتك يا عمّ سيد، فلماذا لم ترحل كما يليقُ بك؟ لماذا لم تُغادرنا فوق منصَّةٍ وأنت تُرتِّل رُوحَك معجونةً بلعبِك السَّاحرِ بقاموسنا المُستهلَك؟ هذا الاحتجابُ الواهنُ خلف ستارةِ المرضِ لم يكُن يُناسب روحَك العفيَّةَ، والموتُ الهادئ الخالى من الإيقاع، يختلف تمامًا عن نبرةِ حنجرتك ومنطقِ رصفك للغةِ والمعنى، كان الأفضلُ لك ولنا أن تموتَ بيننا؛ ليكون الرحيلُ أصفى وأقسى وأبهى وأوجعَ. لك رصيدٌ من الحُنوِّ والمودَّةِ والصفاء يسمحُ بأن تخمشَ قلوبَنا بجرأةٍ أكبر، ولنا عليك من صِلِة الرُّوحِ والشِّعرِ والجمال ما يشفع لنا، ويمنعُك أن تحرمَنا قداسةَ "الشُّوفَة". رحمةُ الله وحده قدَّرت أن يأتى خبرُ ترجُّلِك عن حصان الحياة، وكان لسانُك حصانَك، قبل دقائق من انتهاء موعد عملى، كان قاسيًا أن أضع يدى فى خبرِ رحيلك، وقد استهلكتُ فى دقائق طاقةً تتجاوزُ ما بذلتُه لتخطِّى مِحَن المرض والفقر والفَقْد وانخلاع الأهل والأحِبَّةِ والأصدقاء طوال سنوات؛ لأكتمَ زفرةً اشتعلت فى الصَّدرِ وتضخَّمت سريعًا سريعًا، لتصنعَ بركانًا. جاهدتُ ورسمتُ ابتسامةً صفراء، ونزلتُ مُتعجِّلاً، من الأسانسير للشارع للمواصلات، سيّارة بعد سيّارة، أُهرول إلى البيت ولا أعرف لماذا! وما إن وصلتُ واختليت بنفسى؛ تفجَّرت نافورةٌ من الدَّمعِ اللزج، كأنَّه تخثَّر من طُولِ كتمانٍ، أو كان مخزونًا منذ موتِ أبى أو ذبولِ رُوحى أو انخلاع أحلامِ الطفلِ الباسمِ الذى كُنتُه، من صدرِ الشاب المريضِ الذى أصبحتُ عليه، عُنوةً واغتصابًا، لماذا فجَّرت دموعى يا عمّ سيد؟ بالله عليك تعبتُ من البكاءِ يا رجل، هل هانت عليك دُموع مُحبِّيك؟".
سيِّد حجاب ليس شاعرًا عاديًّا، ويُخطئ من ينظرُ إليه من زاويةِ الشِّعر فقط. كان الرَّجلُ حالةً ثقافيَّةً كاملةً، وفاعلاً عضويًّا فى مُحيطه. عندما خطبت "ندَّاهةُ الشِّعرِ" وِدَّه يافعًا، انحاز إلى لُغةِ الصيَّادين فى بلده على شَطِّ "المنزلة"، ولمَّا تيسَّر له أن يلعب دورًا دعم الشبابَ وكان غضًّا مثلهم، فاختار أن يفتح حاضنةً لهم بصفحته الثقافية فى مجلَّة "الشباب" الصادرة عن الاتحاد الاشتراكى، وكان أبًا روحيًّا ومُرشدًا لجماعة "إضاءة 68" وغيرها. سافر إلى سويسرا مع زوجته إيفلين بوريه، فلعبَ دورًا إلى جوار حركةٍ مسرحيَّةٍ طليعيَّةٍ ناشئةِ في البلد البعيد، وحاولَ نقل التجربة إلى مصر عندما عاد. كتب شعرَ العاميَّة، وأغنيات الدراما، والنقدَ والمقالات الفكريَّة، وترجم ووضع أُوبراتٍ محليَّةٍ، وبشَّر بأجيالٍ جديدةٍ وفتح "ميكرفونه" لتعبُر منه الأصواتُ الليِّنة إلى آذان الناس. وأخيرًا لخَّص دورَه العريضَ بكتابةِ ديباجة دستور 2014، واضعًا فيها خُلاصةَ رُؤيته لمصر، وللثقافةِ، ولهويَّةِ تلك البُقعة الجغرافيَّة وما عليها من بشر، وأحلامَه للأرضِ والإنسانيَّة: "العالمُ الآن يُوشِك أن يطوى الصفحات الأخيرة من العصر الذى مزَّقته صراعاتُ المصالح... وتأملُ الإنسانيَّةُ أن تنتقلَ من عصرِ الرُّشدِ إلى عصر الحكمة، لنبنى عالمًا إنسانيًّا جديدًا تسودُه الحقيقةُ والعدل، وتُصانُ فيه الحُرّيات وحقوقُ الإنسان، ونحنُ المصريِّين نرى فى ثورتنا عودةً لإسهامنا فى كتابةِ تاريخٍ جديدٍ للإنسانية".
رُبَّما يبدو الأمرُ رومانسيًّا. أنا المُتمرِّد الذى لا يُؤمن بالآباء، ويرى جيلَه مظلومًا ومُنكَرًا من سابقيه ولاحقيه، هل يستحقُّ رحيلُ شاعرٍ أحبُّه كلَّ هذا الحزن؟ وماذا إن كان الأمرُ بعيدًا عن الشِّعرِ أصلا؟ هذا الرَّجلُ منذ عرفتُه لأوَّلِ مرَّةٍ قبل أكثر من عشرين سنةً، تسلَّل بخِفَّةٍ وعَفَرتةٍ تُشبهان رُوحَه وكتابتَه، إلى مساحةٍ وسيعةٍ فى صناديق القلب والوعى والرُّوح، لا يُمكن اختزالُها وتوصيفها بتقديرِ قارئٍ لمُقَّفٍ، ولا شاعرٍ لشاعر، ولا إنسانٍ لإنسان، ولا يتيمٍ لأبٍ وافرِ الأُبوَّة، كان كلَّ هذا وأكثر. رأيت الله والمحبَّةَ فى عينيه غيرَ مرَّة، جالستُ الملائكةَ والشياطين فى حضرتِه، شممتُ الوردَ على اختلافِ ألوانِه هفهافًا وطيَّارًا من بين شفتيه، ورأيتُ خريطةَ مصر فى اتِّساعِ جبهته وتجاورِ ملامحِه وحُسْنِ طبوغرافيَّة وجهه. خدَّاه قِربتا حليبٍ صابحٍ، وأنا الطِّفلُ الماكثُ على رجاء الإفطار، أنفُه دُشمةٌ حصينةٌ تُحلِّق على مخازن الكرامة والأَنَفة، وأُذناه هلالان يُبشِّران بمواقيت للسابلةِ والعابرين ومن يشتاقون حبيبًا ومُستمِعًا، وصوتُه عجينةٌ مُتماسكةُ القوام، وضعت أُمِّى موفورَ خبرتها وساخنَ دموعها فيها، وتركتها فى النَّدى ألفَ ليلةٍ وليلة، فمرَّت عليها رُوح أبى، وأرواح القدِّيسين والصعاليك والحُكماء والفلاسفة والملوك والعبيد، ورشقتها السماء بكنانةِ سهامٍ ضوئيَّةٍ كاملة، فاختمرتْ ورَبَت ونضجت من غير نارٍ ولا تنُّور.
لم يكُن سيِّد حجاب ربَّ العاميَّة، لكنَّه أحدُ قدِّيسيها وأنجبُ خُلصائها، ولعلَّه الأجملُ والأصفى والأقدرُ عليها بعد فؤاد حداد، لا سَمِىَّ له ولا نظير، لم يُخالطها مُخالطةَ الصَّانع لأداةِ صَنعته، اقترب منها برُوحِ الشَّاعرِ ووعى الحكيمِ وعُمق الفيلسوف، عرف حقيقةَ أن جلالَها فى بِنْيتِها وتصاوتها، وأنَّ بلاغتَها فى اكتنازها ومُخاتلتها، وأنَّ سُموَّها وارتقاءها فى نُزولها المحسوبِ ومُخالطتِها المُتِّزنةِ للسانِ الناسِ ومطروقِهم، فتواضع لها وبها، حتى لامستْ الأرضَ، وأنجبت من الطِّينِ دراما خضراء وأماثيل مُلوَّنةً، وفلسفةً خالصةً، فى أطباقٍ من فخّارٍ يُعجبُ الفلاسفةَ تلبيسُها عباءةَ اليومىّ والعادىّ، ويطعمُ العاديِّون خُلاصتَها وجوهرَها، لهذا وبه تفوَّق على المُحيطين، حتى من يفوقونَه موهبةً وخيالاً. كان الأكثر فَراسةً وفُروسيَّةً وافتراسًا، وكان "حجابًا" يميز القارَّ من العرضىِّ، و"الهويَّاتىّ" من المُتحوِّل، وكان سيِّدًا، بينما يتراجع للخلف فى كُلِّ جُملةٍ، مُقدِّمًا أصحابَها الحقيقيِّين ومُستحقِّيها الأصليِّين.
يطيبُ للبعضِ التأريخُ للعاميَّة انطلاقًا من "ابن عروس" قبل أكثر من قرنين. بعيدًا من ظلالِ الشكِّ والجدلِ حول نسبتِه وحقيقةِ وُجوده، فإنَّ نهرًا جارفًا من العاميَّة يُمكن السيرُ باستقامةٍ فى مجراه لأكثر من قرن ونصف. من النديم إلى أبو بثينة إلى بديع خيرى ويونس القاضى وبيرم التونسى، وصولاً إلى فؤاد حداد وصلاح جاهين ومن تبعهم. كثيرون عبروا على هذا الماء، وقليلون اغترفوا منه أو تركوا فيه أثرًا. سيد حجاب يملك واحدةً من المحطَّات القليلة. إذا كان "بيرم" أحدثَ فى الزَّجلِ ولُغتِه وقضاياه ما لم يُحدثه سابقوه، و"حدّاد" أنزلَ لغةَ الناسِ منازلَ الفلسفةِ دونَ تعقيدٍ أو انفصالٍ عن أصحابها، فإن سيد حجاب كان مزيجًا مُدهشًا بين الهرمين. قبضَ فى قصيدته على بساطةٍ عميقة، ولُغةٍ سيَّالةٍ قادرةٍ على الغناء والتطريب، وغير عاجزةٍ عن حَملِ هُموم الناس وهَندَمتِها ووضعِها فى مقاعدِ النُّخبةِ وعِليةِ القوم. وما إن اقترب من الدِّراما حتى أحدث فيها ما لم تكُن تعرفه، طوَّر الأُغنيات المُصاحبة إلى دراما مُوازيةٍ، وإبداعٍ مُكافئٍ، وجعل من "تترات المُسلسلات" مداخلَ فنيَّةً قادرةً على الرَّمز والتعبير، وعلى أن تعيش بطُولِها دون حاجةٍ أو سَنَد. قبل "حجاب" كانت التترات فواصلَ مُوسيقيَّةً أو ترجيعًا باهتًا للمجموعة، أما بعده فأصبحت مِعمارًا قائمًا بذاته. يقول المُخرج محمد فاضل إنه عمل معه منذ أواخر الستينيَّات، لكن يُمكنُنا على الأقلِّ القول إنه ابتداء من "الأيَّام" و"أبنائى الأعزاء شكرًا" قاد سيد حجاب مسيرةً تبعه فيها الجميع، وظلَّ حتى تجربتِه الأخيرةِ كاسرًا للتوقُّعِ وقادرًا على الدهشةِ ومُتفوّقًا على كُلِّ من تبعوه!
كان "حجاب" حِجَابًا للمحبَّةِ، وحاجبًا على باب الفنِّ، ووقف طويلاً يحجُب عن الدَّهشة كلَّ ما يُمكن أن يُعكِّر صفوَها من سطحيَّةٍ واعتياد. لم يكُن حزينًا أو خبَّازًا للحُزن، لكنَّه أقربُ إلى الدَّمعةِ التى تتكوَّرُ وتتدحرجُ من عينِك بعد ضحكةٍ صافيةٍ صادقة. الضحكةُ تلويحةٌ عابرةٌ والبُكاءُ أُنسٌ دائم. هناك كثيرون من الناس لم يأنَسوا أو يُؤنِسوا أو يُستأنَسوا بعد. بعضُ المحسوبين على صُلبِ آدم ومائِه، تخلَّقوا من الشروخِ والجفاف، ولو جرَّبوا مرَّةً أن يتطهَّروا دمعًا؛ لذابت أجسادُهم بكاملها، وانتظر فائضُ مواجعهم بعثًا ونُشورًا ليذوبوا من جديد. الدموعُ بضعةٌ من قَبَس الربِّ فى مُقل الناس، تمامًا مثلما اللِمَاعُ مُفرطةُ التلوِّنِ بضعٌ من الشيطان. من لا يُجيدُ البكاءَ - كعمليَّةِ بَعثرةٍ وترتيبٍ لمُفرداتِ إنسانيَّته - ولا تُعاضِدُ شرايينُه، وكُلُّ خلايا جسدِه، عينيه فى صلواتهما المُقدَّسة، لم يشمّ رائحة السموِّ بعد، ولم يلبس سوى روح الغواية ولحم الأبالسة. هكذا نظرتُ فى سيرة سيِّد حجاب، فلم أجد إلا ابتسامًا خفيفًا لا يجرح الخَدَّ، وبكاءً شفيفًا غُزِلَ بعنايةٍ وصَنعة، وهُما فى جوارٍ حَسنٍ لا يجورُ أحدهما على الآخر!
خمسُ سنواتٍ مرَّت، وما تزالُ الحالُ على ما كانت عليه، والأسى نفسُه كلَّما تذكرتُه. انكسارُ ظَهرٍ وانحسارُ رُوحٍ وشَجُّ عقلٍ وقلب، وسخونةٌ وغليانٌ يُذيبان الذاكرةَ ويُقطِّرانها صورًا ومواقف ودموعًا وقصائد وأغنيات. بالنسبة لمن يعرفون قدرَه يستحقُّ احتفاءً لا ينقطعُ، ولمن يجهلونه مُجرَّد راحلٍ مُتأخِّرٍ فى طابورٍ طويلٍ من الراحلين، لكنَّنى أكادُ أجزمُ أنَّه بالنسبة لمصر وثقافتها ورُوحها النَّاصعةِ قطعةٌ من كبدٍ، أو طرفُ من الأطراف، والبَتْرُ قاسٍ على صاحبه، وليس مُجرَّد عُكَّازٍ كما يراه الرائى! خمسُ سنواتٍ تسرَّبت بعدما غادرنا من قال راجيًا "ما تسرسبيش يا سنينَّا من بين إيدينا"، ومن رأى الزمانَ ينفلتُ بين أصابعِنا كأنّه "سَحْبة قوس فى أوتار كَمَان". لا شكَّ فى أنَّنا نمضى فى طريق العُمر كأنَّما نُناور كلبًا مسعورًا يترصَّد خطوَنا، إمَّا أن نُسرع الخُطى فتشتعل رُؤوسنُا شيبًا قبل أن يلحقَنا، أو نُبطئ فيعقرنا مُبكّرًا. سيِّد حجاب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ركضَ قَدْرَ ما فى ساقيه من طاقةٍ، ورحلَ غضَّ الرُّوحِ والرَّائحة. صحيحٌ أنَّه أوجعَنا وتركَ فراغًا، لكنَّ عزاءنا أنَّه كان، وما يزال، القوسَ والكَمَان بكاملهما، ولم يكُن مُجرَّدَ سَحْبَةٍ عابرة!