دورٌ كبير وبالغُ الأهميّةِ تلعبُه هيئةُ قُصورِ الثقافة، لا سيّما على صعيدِ النِّشر. إذ لا تخلو مكتبةٌ عامَّةٌ أو شخصيَّةٌ فى مصرَ من مطبوعاتٍ جيِّدةٍ، عاليةِ القيمةِ وزهيدةِ السِّعر، وفَّرتها الهيئة من خلال سلاسلها المُتنوِّعة، وسدَّت بها فراغًا كبيرًا فى سُوقِ النَّشر، وأشبعت احتياجاتِ فئةٍ من القُرَّاء والمُهتمِّين. جَهدٌ يستحقُّ الإشادةَ، وأَثرٌ لا يُمكن إنكارُه فعلاً.
قد لا تكونُ "قُصورُ الثَّقافةِ" الأكبرَ حجمًا أو ميزانيَّةً، ولا يقعُ النَّشرُ فى المرتبةِ الأولى من اهتمامها، لكنَّها تُجيدُ توجيه مواردها على نحوٍ كُفء، وتُعالجُ اختلالات سُوقِ النَّشرِ وتسدُّ ثغراتِها، بدءًا من سلاسلِ النَّشرِ الإقليمىِّ بما تُوفِّره من مَنفذٍ مُهمٍّ لأُدباء المُحافظات، والمجلَّات الدوريَّةِ الإقليميِّةِ والمُتخصِّصة، والسلاسل العامَّة والنوعيَّة. مئاتُ العناوين سنويًّا تُغطِّى كُلَّ صُنوفِ الكُتُبِ وأبوابَ المعرفة، وتطغى إيجابيَّاتُها على ما يُمكن رَصْدُه فيها من مُلاحظات. وهو دَورٌ يتطلَّبُ التعميقَ والعملَ من أجل استدامتِه وتكثيفِه وتوسعةِ مداه، والوصولِ به إلى كُلِّ ناحيةٍ ومجال.
الهيئةُ التى بدأت بمفهوم "الثقافة الجماهيريَّة"، كانت فى وقتٍ من الأوقاتِ الشُّريانَ الوحيدَ الذى يُغذِّى أنحاءَ مصر بالمعرفة والثقافة، والقوَّةَ الضاربةَ للدَّولةِ ومُؤسَّستِها الثقافيَّة على امتداد الخارطة. تملكُ الهيئةُ زهاءَ ستّمائة مَوقعٍ، وعشرات الفرق الموسيقية والمسرحية والشعبية، وأكثرَ من مائةِ نادى أدبٍ، ونوادى للمرأة والسينما والمسرح. بدا أثرها واضحًا بقوَّةٍ مع الانخراطِ فى خُطَّةِ وزارة الثقافة للعمل ضمن المُبادرة الرئاسيَّةِ "حياة كريمة"، وإطلاق قوافل وجولات ثقافيَّة وفنيَّة فى المُحافظات، وبدء تأسيس مكتبات نوعيَّة بالقُرى والأحياء. هذا الدور تدعمه وتقعُ فى القلبِ منه إمكاناتُ النَّشْرِ لدى الهيئة، إذ تُمثِّل خَطَّ إمدادٍ لوجستيًّا عظيمًا؛ لتزويدِ الأقاليم بالمطبوعات والمعرفة، وتلبيةِ الاحتياجات النوعيَّةِ للفئات المُستهدَفةِ بحسب اهتماماتِها، ورهاناتِ الدَّولةِ، وتطلُّعات مُؤسَّسات التربية والتثقيف. وهو مسارٌ لا غِنَى عنه بالنظرِ إلى قاعدةِ الانتشار، وقُدراتِ الوصول بالخدمة الثقافية لنطاقاتٍ جُغرافيَّةٍ وسُكَّانيّةٍ واسعة. ورغم فاعليَّته الملموسة بدرجة كبيرة حاليًا، يُمكن تعميقه؛ حال تقويةِ الرِّهان على الهيئةِ وكوادرها، وتعزيزِ جُهودها، والاستمرار فى تجويدِ أنشطتها وخدماتها.
تُمثِّل هيئةُ قُصورِ الثقافةِ، إلى جانب الهيئة العامة للكتاب والمركز القومى للترجمة، ثالوثًا ضاربًا يضعُ المُؤسِّسات الرسميَّةَ فى قَلبِ حَركةِ النَّشرِ، ويُوفِّر لها فرصةَ قِيادةِ السوقِ، وتوجيهِ المُنافسين إلى ما يخدم خُططَ التنوير وبناء الوعى. أوَّلاً لأنَّ لديها انحيازاتٍ وطنيَّةً واضحةً، وتملك جاذبيَّةً لا تُنافَسُ لكثيرين من الكُتَّاب ومُنتجى الثقافة، والأهمُّ أنّها قادرةٌ على ضَبطِ التسعير، وإعادةِ التوازن إلى اقتصادات صناعةِ الكِتاب. والحقيقةُ أنَّ تلك النُّقطةِ تتقدُّم فيها هيئةُ قصور الثقافةِ على مُنافسيها، ذوى الصبغةِ الرسميًّة أو الخاصَّةِ، ما يجعلُنى شخصيًّا أراها النَّاشِرَ الأكبرَ والأهمَّ فى السَّاحةِ، ليس لأنَّها تطبعُ أكثرَ العناوينِ أو تُحقِّقُ أكبرَ المبيعات والعوائد؛ ولكن لأنَّها تتحرُّك فى ضوءِ استراتيجيَّةٍ مَعرفيَّةٍ أكثرَ انسجامًا مع السياقِ العام، واستهدافًا لرِهاناتِ المعرفةِ والتثقيف النوعيَّةِ للفئاتِ الواقعةِ خارجَ اهتمامِ ناشرى القطاع الخاص وتُجَّار الثقافة والكُتب، وأخيرًا؛ لأنَّها تقبضُ على درجةٍ مُحكَمَةٍ من الموازَنةِ بين مُقتضيات الوجود، وضروراتِ إشباعِ السُّوق، وفلسفةِ العدالةِ بين مُنتجى المعرفةِ ومُستهلكيها.
الانتشارُ الجُغرافىُّ يُحقِّق لهيئةِ قُصورِ الثَّقافةِ ربطًا عضويًّا مع الفئاتِ المُستهدَفة، ومدخلاً خلَّاقًا لابتكار وتغذيةِ حالةِ ولاءٍ بين المُؤسَّسةِ والجُمهور، وقُدرةَ اختراقٍ أوسعَ ونفاذٍ أسرعَ إلى إحرازِ غاياتها. تحتضنُ الهيئةُ آلافَ المُبدعين على امتدادِ مصر، وتُتيحُ لهم أبوابًا عدَّة للظُّهور والاتِّصال بالسَّاحةِ الثقافيَّةِ، وتُوازنُ فى معروضِها بين الثقافةِ النوعيَّةِ المَشبِعةِ للمُتخصِّصين وذوى الاهتمام المُعمَّق، والوصول إلى الواقعين خارجَ أحواز التداول الثقافىِّ الشائعة، واجتذابِ وتَرقيةِ العَوَامِ سعيًا إلى التَّمكينِ المعرفىِّ. لا يُمكن أن تتخيَّلَ أهميَّةَ وأَثرَ سلسلةِ النَّشرِ الإقليمىِّ التى تطبعُ أكثر من مائةِ عنوانٍ سنويًّا بجنيهٍ واحدٍ للكتاب، بعيدًا من حجم المطبوع والتوزيع، لكنها تُمثّل ترجمةً عمليَّةً لفكرة ديمقراطية الثقافة، وتمكين الأطراف البعيدة عن المركز. وكذلك المجلَّات الدوريَّة للفروع الثقافية، ومجلة الثقافة الجديدة للمُهتمِّين بالأدب، ومجلَّة قَطْر النَّدى للأطفال، وغيرها من مطبوعات السينما والمسرح والنقد الأدبى والعلوم الاجتماعية، وسلاسل الذخائر وذاكرة الكتابة وآفاق عالمية وعالم الموسيقى وحكايات مصر وكتابات خاصّة وآفاق الفن التشكيلى، فضلاً عن السلاسل الأدبيّة. قائمةٌ طويلةٌ تجعلُ من قصورِ الثَّقافةِ لاعبًا لا يُمكن إغفالُ قيمتِه، ومُنافسًا لا تَسهُلُ مُجاراتُه، وقناةَ الاتِّصال الأكفأَ فى الوصولِ إلى الجُمهور، وفى تمريرِ المَعرفةِ بعيدًا من حساباتِ الرِّبحِ أو الأيديولوجيا أو ألاعيبِ أصحابِ الأهواءِ التِّجَاريّة!
المُلاحظةُ الوحيدةُ رُبَّما تُخصُّ سلاسلَ التُراث، إذ تعتمد الهيئة فيها على نُسخٍ قديمةٍ يُعاد نشرُها تصويريًّا، بدلاً من جَمعِها وتنسيقها على وجهٍ أحدث. لعلَّ الأمرَ يعودُ إلى حساباتِ الميزانيَّةِ ورغبةِ الإنجازِ بأقلّ كُلفةٍ وأسرع وقت، لكن أحيانًا لا تكون النتيجةُ النهائيَّةُ أفضلَ ما يُمكنُ، أو حتى كما تبتغى الهيئةُ نفسُها. راجعتُ مُؤخَّرًا عشراتِ العناوين، فى مكتبتى وبين معروضات الهيئةِ بمعرضِ الكتاب، وجدتُ كُتبًا مُهمَّةً للغايةِ؛ لكنَّ تِقنيةَ التصويرِ من مخطوطاتٍ أو طبعاتٍ قديمةٍ أضرَّت بها، إلى حدِّ أن بعضَها مطموسٌ أو غائمٌ أو تصعبُ قراءتُه. ممَّا راجعتُه مثلاً: كتاب "اللمّع" للطوسى، والتعرُّف لمذهب أهل التصوُّف لأبى بكر الكلاباذى، والأصنام للسائب الكلبى، وديوان ذى الرُّمّة، ومشارف أنوار القلوب لابن الدبّاغ، ونَهج البلاغة للشريف الرضىِّ بتحقيق الإمام محمد عبده، وديوان الحماسة للبُحترى، والمُحمّدون من الشعراء للقِفطى، وكنز الحُفَّاظ لابن إسحاق السكِّيت، والمعارف لابن قُتيبة، ومناهج الألباب المصرية لرفاعة الطهطاوى، فضلاً عن بَعضِ عناوين العام المصرى اليونانى احتفاءً بضيفِ شَرفِ معرضِ الكِتاب. وإذا جازَ اعتبارُ ذلك مفهومًا لدى البعضِ فى التُّراث، وإن كنتُ أختلفُ شخصيًّا فى هذا، فماذا عن كُتب: النهضة والسقوط لغالى شكرى، والتحليل الاجتماعى للأدب للسيد يس، ونظرية القِيَم فى الفكر المُعاصر لصلاح قنصوة، والمرايا المُتجاورة لجابر عصفور، وقراءة ثانية لشعرنا القديم لمصطفى ناصف، وحديث السندباد القديم لحسين فوزى، وتراجم مصرية وغربية لمحمد حسين هيكل، وصفحات من التاريخ لبهىّ الدين بركات، وثورة 1919 لعبد الرحمن الرافعى، وسعد زغلول وثورة 1919 لعبد الخالق لاشين؟ وكُلُّها كُتبٌ قريبةُ العهدِ ورُبَّما تتوافر مخطوطاتُها بأيدى أصحابِها، ويسهلُ جمعُها، ولا خوفَ فيها من الغريبِ أو الصعبِ أو المُستغلَقِ على الكَتَبةِ والجامعين!
مُقابل ذلك، رأيتُ كُتبًا من التُّراثِ قُدِّمت بطباعةٍ جديدة، منها: مفاتيح العلوم للخوارزمى، وبلاغات النساء لابن طيفور. ربَّما يتَّصل الأمر بحداثةِ التحقيقِ، لكنَّه يُشيرُ إلى إمكانيةِ التّكرارِ وانتفاءِ الحاجةِ للتَّصوير، ولا أتصوَّرُ أنَّه من الصعبِ، أو المُستحيلِ، أن نُعيدَ جَمعَ وتنسيقَ الكُتبِ القديمةِ، لا سيَّما أن لدى الهيئة جامِعِيْنَ ومُصحِّحين مُعيَّنون على تلك الوظائف، ويُمكِنُ أن يتأخَّرَ نَشرُ الكِتابِ أُسبوعًا أو أُسبوعين؛ حتى يخرُجَ فى صورةٍ أبهى. تلك الخطوةُ لن تزيدَ التكلفةَ كثيرًا، بل ربَّما لا تُحرِّكها أصلا، لأنَّ الكوادرَ مُتاحةٌ بالهيئة، وحتى لو احتاجت للاستعانةِ بمُعاونين من الخارجِ؛ فإنَّ تسعيرَ الأجرَ مُقابل الملزمةِ ليس باهظًا، ولن يُضيف إلى تكلفةِ الكِتابِ كاملاً أكثر من مئاتِ الجُنيهات على أكثر تقدير.
ما سبقَ لا يعنى الانتقاصَ من جَهدِ هيئةِ قُصورِ الثَّقافةِ وسلاسلِها وإدارةِ النشر بها، وقد أشرتُ إلى قناعةٍ شخصيَّةٍ لدىَّ بأنَّها الناشرُ الأكبرُ والأعمقُ أثرًا فى الثقافةِ وسُوقِ الكتابِ بمِصر، قد لا تكونُ الأكثرَ مبيعًا وأرباحًا، لكنَّ طبيعةَ دورِها أنَّها غيرُ مَعنيَّةٍ بالرِّبح، قدرَ اعتنائها بالفاعليَّةِ وتمريرِ المعرفةِ والوصولِ بها إلى مُستحقِّيها، كيفما يُناسبُ اهتماماتِهم وأحوالَهم. ومن أجلِ تعزيزِ هذه الفاعليَّةِ، ودَفعِ النجاحِ المُتحقِّقِ خُطواتٍ إضافيَّةً إلى الأمام، ربَّما تكون إعادةُ النَّظرِ فى آليَّةِ الطِّباعةِ التصويريَّةِ من طبعاتٍ قديمةٍ أمرًا مُلِحًّا، على أن تتَّجه إدارة ُالنَّشرِ وفريقُها إلى إعادةِ جَمْعِ الكُتُبِ وتَنسيقِها وإخراجِها بصورةٍ أفضل، ورَفعِ جودةِ الطّبعاتِ بدءًا من الاهتمام بالتَّحريرِ والتصحيحِ، وتلافى الأخطاءَ التى يُمرِّرها بعضُ المُصحِّحين سهوًا أو استسهالاً أو قلَّةَ كَفاءة، وتحسينِ مُواصفاتِ الكُتُبِ فيما يخصُّ الأوراقَ الداخليَّةَ والأغلفةَ وتصميمَها وطباعتَها. وكُلُّ ذلك يُمكن أن يُضيف قدرًا ضئيلاً من التكلفةِ، يسهلُ على الهيئة تدبيره من أبوابٍ أخرى، أو أن تدعمَه وزارةُ الثقافةِ، ولن تتأخَّرَ فى ذلك؛ لكنَّه من دونِ شكٍّ سيعودُ بأكبر الأثرِ على إصداراتِ الهيئة، وانتشارها، وإقبال القُرَّاءِ عليها، ليصُبَّ فى اتِّجاه إحرازِ الدَّورِ المُستهدَفِ منها بالأساس، وتمكينِ الأفرادِ من المعرفة على وجهٍ جاذبٍ ومُشجِّع.
كُنتُ، وما أزالُ، واحدًا من أبناءِ الثقافةِ الجماهيريَّة. رُبَّما إلى الآن أُحبُّ أن تستعيدَ اسمَها القديم، لتكونَ تعبيرًا حقيقيًّا عن فلسفةِ الدَّولةِ الرَّاهنةِ فى احتفائها بالجُمهورِ ووضعِه مَوضِعَ الأولويَّةِ بين اهتماماتِها. أفخرُ فخرًا حقيقيًّا بهذا الصَّرحِ العِملاق، صحيحٌ أنَّ الأمرَ لا يخلو من سلبيَّاتٍ تخصُّ تكلُّسَ الجهازِ الإدارىِّ للهيئة، أو انقطاعَ علاقةِ كثيرين من مُوظَّفيها بالثَّقافةِ؛ لكنَّ الإيجابيَّاتِ أكبر وأعمق، والبناءَ عليها يُبشِّرُ بمنافعَ وآثارٍ لا حصرَ لها، تصبُّ فى صالحِ المُواطنِ الذى يُمكنُهُ الوصولُ إلى المعرفةِ بكفاءةٍ ودونَ أعباء اقتصاديَّة، وفى صالحِ الوطن الذى يملك - من خلالِ الهيئةِ - أداةَ اتِّصالٍ ضخمةً وفعَّالةً فى النفاذِ إلى كُلِّ شِبْرٍ من مصر. وأثِقُ أنَّنا فى سياقٍ آخذٍ فى التَّطوُّرِ باتِّجاه تمكينِ أهلِ الجُمهوريَّةِ الجديدةِ من سُبُلِ العَيشِ الكريم، ستكتسبُ "قُصورُ الثقافة" مساحةً أوسع، وستلعبُ أدوارًا أكبر وأهمّ، وهى بالفعل قادرةٌ عليها، ولديها من التاريخ واللوجستيَّات ما يُمكِّنُها من إحرازِ الغاية، وخَوضِ معركةِ التنويرِ وصيانةِ الهُويَّةِ وبناءِ الإنسانِ ووعيِه ببسالةٍ وثباتٍ على كُلِّ الجبهات.